أ .د . محمد بلتاجى حسن
بقلم . د. صلاح سلطان *
تربطني بشيخي وأستاذي أ.د. محمد بلتاجي روابط عريقة تمتد منذ 1978م وحتى لقي الله 2004م. وقد وجدت فيه صفات قلّما تجتمع في غيره. فهو صاحب العلم القويّ والقلم السخيّ والغضب الشجيّ والحلم النديّ، والحزم الفتيّ والمزاح الحييّ، كما أنه صاحب حجة شرعية مع خشية قلبية، فلم أجده طوال حياته يُفتي تزلفا لكبير أو تساهلا مع صغير بل كان يصدع بالحق لايخشى فيه لومة لائم.
وعندما علمت بوفاته مع إقامتي في الولايات المتحدة بكيت كأني فقدت أبي، وبعثت إلى جميع العناوين على البريد الالكتروني (E-mail) طالبا الدعاء له بالرحمة الواسعة والمغفرة الشاملة، وكانت أول خطبة في مسجد المركز الإسلامي بديربورن-ديترويت- ميتشجان وسألت جميع المصلين في الجمعة وهم قرابة الأربعة آلاف أن يجتهدوا بالدعاء لهذا العالم الفذّ، وذهبت بعده إلى إلى ألمانيا فخطبت الجمعة الأولى في ميونخ وبعدها بأسبوع في برلين وبينهما في مؤتمر في فرانكفورت وسألت الجميع أن يدعو لشيخي وأستاذي د. محمد بلتاجي، ولازلت أراه في رؤى طيبة كل اسبوع على الأكثر، والحق أني أراه في الرؤى في شبابه الذي لم أدركه، يمتليء وجهه نورا وضياء، وأسأل الله أن يكون خيرا مما أراه في هذه الرؤى.
والحق أن شيخي تميّز بخصائص فريدة ومواقف عديدة يمكن أن ألخص أهمها فيما يلي:-
أولا: علمه القويّ وقلمه السخيّ:
لقد كان شيخي البلتاجي فذا في علمه، قويا في حجته فهو صاحب ذكاء حادّ وعلم فيّاض فقد تربى في أسرة العلم فوالده شيخ من كبار علماء الأزهر، والحق أن له نظرات في الأصول والفقه وتحقيق القضايا العلمية وذكر الرأي والرأي الآخر ومناقشته بما يجعلك تقف أمام سيل من العلم كأنما يغرف من بحر، وأول كتاب قرأته له هو كتاب أحكام "الأحوال الشخصية" وهو موسوعة علمية جعلتني منذ 1978م أتمنى أن أكون له تلميذا، وقرأت الكتاب كله قبل شرحه لنا، ثم موسوعة "مناهج التشريع في القرن الثاني الهجري"، وهي أول دراسة تبين مناهج الأئمة الأعلام وأدلة الأحكام لدى كلٍ، كما تجد هذا التوثيق العلمي الرصين والنقاش الفياض في كتابه "منهج عمر بن الخطاب في التشريع"، وكانت صولاته وجولاته العلمية مع فريقي المتحجرين والمتحللين في كتابه "قضية المرأة ومكانتها في التشريع الإسلامي" من أروع مؤلفاته، وتجد لديه أصالة الرجوع إلى النصوص وتقديرها، ودقة العمل بالمصلحة مع ضوابطها، كما أنه أطلق لي العنان في الاجتهاد في المقاصد وأن هناك اجتهادا في النصوص القطعية لتحقيق مقاصدها الشرعية مع عدم إهمال النصوص الجزئية. وقد كنت مشفقا على نفسي أن أخوض في الثوابت التي اصطنعها الأصوليون والفقهاء دون دليل قطعي لكنه فتح لي الباب، ودافع عن رسالتي في الدكتوراة دفاعا مستميتا حول دعاوى الإجماع التي لاتثبت عند التحقيق العلمي الأصولي، والحق أني لم أتعلم من شيخي فقط المفردات الأصولية والفقهية بل مناهج النظر والترجيح، وأصول الكتابة والتحقيق.
ثانيا: حماسه القويّ وصفحه النديّ:-
كان شيخي رحمه الله شديدا في رأيه، متحمسا إلى قناعاته، عنيفا في مواجهاته، وكان حماسه أولا للإسلام والمسلمين يدافع بحماس عن الأصول الشرعية والثوابت العقدية، ولم يهادن مرة في فتوى، ولم يصانع في رأي، وهو الذي انبرى يكتب في حماسة العالم الغيور على دينه يواجه القانون الذي قرره رئيس الدولة السابق أنور السادات في غيبة مجلس الشعب، وفنّده تفنيدا علميا في حياة السادات فلم يخش في الله لومة لائم، وصدع بالحق حتى عندما تم تعديل القانون نفسه للأحوال الشخصية رقم 100 لسنة 1985م كتب في مواجهته أيضا، وكتب في مواجهة فتاوى مفتي مصر سابقا وشيخ الأزهر الآن الشيخ طنطاوي حول قضايا البنوك وغيرها، ولذا كان-رَحِمَهُ الله- لعلمه وحماسه مُهابا من القريب والبعيد، ورفض مرارا مسئولية منصب الإفتاء في مصر خشية أن يضطر إلى الملاينة والمصانعة والانتقال من الاجتهاد الأصولي الإصلاحي إلى الاجتهاد التسويغي. غير أن حماسه هذا كان ينال محبيه لكن سرعة غضبه كان يلحقها بسرعة فيئه، وأذكر لذلك موقفين:-
(1) كان لنا اجتماع لأساتذة الكلية في مكتبه كعميد لها، وبدأ بعض من لايحبونه يذكرون ملاحظات يقدحون في إدارته واحتملهم، وما إن تكلم أحد محبيه وطلابه وزميل في الكلية بغرض النصح والارتقاء بالكلية حتى غضب عليه جدا، وطلب أن يخرج من المكتب غير أن رئيس قسمه، وكان رجلا حقا رفض أن يخرج المدرس المساعد بهذه الطريقة، ثم رُوجع شيخنا البلتاجي فوالله أشهد أنه أرسل إلي وقال: اذهب إلى فلان وقل له يسامحني فما كان من حقي أن أفعل هذا، وإذا قبل أن يذهب عمرة على حسابي كفارة لما فعلت فأنا مستعد، وبسرعة تم الصلح ورفض زميلنا هدية أستاذه لأن تراجعه هذا يكفي دلالة على سموه ورقيه.
(2) سعى بعض الأساتذة للوقيعة بيني وبينه أنني أقف ضده في انتخابات عمادة الكلية وغضب غضبا شديدا وتوقف عن قراءة بحثي للدكتوراة ومنعني من مجالس علمه وإدارته، وشكوت إلى الله تعالى هؤلاء السعاة بالنميمة والوقيعة، حتى أرسل إلى أستاذي الدكتور العجمي وأخبره أنه رأى والده الشيخ البلتاجي في المنام غاضبا عليه ويقول له أن ما بلغك عن صلاح غير صحيح، وبلغني أستاذي العجمي فذهبت إلي شيخي البلتاجي وخجلت من طلبه العفو، فقبلت رأسه ويديه شكراً له على سمو خلقه، ثم منحني ثقته وتقديره، وإن ظل هؤلاء يكرون بين الفينة والأخرى، لكن حماسه عند الغضب كان ينسخه دائما حلمه ورقته وسرعة فيئة رحمه الله تعالى.
ثالثا: مزاحه الثريّ:-
على الرغم من قوة علمه وشدة حزمه، لكن أستاذي كان ثريا في مزاحه، وأشهد أنه لم يمزح مرة بما يجري من البعض من ذكر الأمور القبيحة ليضحك من حوله، بل كان يُكني ويضحك فتشعر أمام مزاحه أنك تضحك ولاتفقد هيبة أستاذك، لكنه كان إذا ضحك تشعر كأن الدنيا كلها تضحك معك من فيض فرحته، وبهاء طلعته، وزيادة بسطته.أخيرا: فضائل لا تُنسى لشيخي وأستاذي البلتاجي رحمه الله تعالى:-
(1) درسني ثلاث سنوات في الكلية من الثانية حتى الرابعة ثم في التمهيدي ماجستر ثم كان مشرفي في رسالتي الماجستير والدكتوراة.
(2) وقف وقفة رجل أمام رفض إدارة الكلية تعييني معيدا بسبب نشاطي الإسلامي، وكان شاهدا في قضيتي أمام مجلس الدولة، وسهل تعييني في الكلية عندما حصلت على حكم نهائي بأحقيتي بالتعيين في الكلية وكان عميدا للكلية آنذاك 1986م.
(3) دافع عني كثيرا أمام التقارير العديدة من وزارة الداخلية وإدارة الجامعة وغيرها كما واجه بعضا من الذين حاولوا الإيقاع بيني وبينه.
(4) كان يعتبر دار العلوم صرح الإسلام في مصر، وكان يردد كثيرا "هذه أكثر كليات الجامعة التي يُذكر فيها اسم الله كثيرا، من أرادها بسوء قصم الله ظهره".
(5) وقف موقف العالم القوي الجريء في قضية نصرأبو زيد أمام تيار هادر من العلمانيين في مواقع كبيرة ليبين أصول الإسلام وكان يردد "لقد جمع نصر أبو زيد بين الجهل الفاضح والكفرالواضح" وهو ما أكده التقرير العلمي للقضاء المصري.
(6) كان يشرفني بتوصيله إلى القطار أو مكان إقامته في طنطا حيث بلدتي الأصلية لاتبعد عنه عشرين كيلومترا وهذا كان يتيح لي حوارات خاصة معه، وأوقاتا ممتعة، وتعلما مركزا مما حرمت منه بسفري إلى سلطنة عمان ثم إلى الولايات المتحدة الأمريكية، لكني سأظل أذكر شيخي في خلواتي وجولاتي أن يرفع الله في الجنة درجاته، وأن ييارك في أهله وأولاده وأن ينفع بعلمه طلاب العلم الدعاة المخلصين لاستنقاذ أمة الإسلام والمسلمين من كيد الكائدين وبطش الظالمين.وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
* أستاذ بكلية دار العلوم
0 التعليقات:
إرسال تعليق