بقلم . د. وصفى عاشور أبوزيد
إحالة بعض المعارضين للنظام المصري إلى محاكمات عسكرية في مصر مؤخرًا حَدَثٌ ضخم أثار صخبًا واسعًا، وجدلاً كبيرًا على كلِّ الأصعدة، ومع ذلك لم ينل حظه من أقوال العلماء من المتخصصين في الشريعة الإسلامية، باستثناء ما قاله فضيلة العلامة الشيخ يوسف القرضاوي مؤخرًا في حلقة برنامج "الشريعة والحياة " الأحد- 5 مارس 2007م- التي تناولت الحديث عن المبادئ الكلية للحلال في الإسلام، وطالب خلالها علماء الإسلام أن يعطوا كلمة (الحرام) حقَّها، وقال إن كبت الحريات، والتعدي على حرمات الناس، واعتقالهم، ومحاكمة المدنيين محاكمات عسكرية، وتزوير الانتخابات، ونهب الأموال العامة... كلها محرمات ينبغي أن يعلن عنها العلماء، كما يبالغون في الإعلان عن المحرمات الأخرى المعروفة".ا.هـ.
وربما كان ذلك خوفًا من السلطان الباطش، أو رغبةً في ذهبه، أو لأن الأمر- في نظر البعض- لا يحتاج إلى فضل حديثٍ لوضوح حكمه الشرعي.
وعلى أي حالٍ فإن من المهم هنا تسليط الضوء على الموضوع من الناحية الشرعية، وبخاصة في ضوء مقاصد الشريعة التي تقرر حرمة أموال الناس وأعراضهم وأنفسهم؛ وذلك لما للموضوع من أهمية وحيوية لا سيما في هذه الفترة الحرجة من حياة مصر.
وما كان للإسلام أن يتكلم في أحكام الطهارة والصلاة والصيام ومسائل الفقه المعروفة والمعتادة في حياة الأفراد، ثم يترك الأمور الكبيرة والأحداث الضخمة التي تتعلق بقضايا المجتمعات، وتتصل بواقع الأمة، مثل تزوير إرادتها في الانتخابات، وحرمان طلاب الجامعات من ممارسة حقوقهم المشروعة، ونهب المال العام، واحتكار بعض المواد بما يضع المجتمع بأسره في حالة من الحرج والضيق والعنت، و"إطباق" المجتمع بحيث يصبح طبقاتٍ، يزداد الغنيُّ فيه غنًى، والفقير فقرًا، فيصير المجتمع بين: "بئر معطلة وقصر مشيد".
وصف الواقع
وللحديث عن هذه المسألة لا بد من عرض الواقعة لينبني الكلام على بينة، ففهم الواقع نصف الوصول للحكم الصحيح كما هو معروف، وبالنظر في هذه الحالة وُجد أن بعض المعارضين الذين يمثلون خطرًا على النظام المصري تعامل معهم النظام بمنطق الإقصاء والتعسف، فلم يَمْثلوا أمام قاضيهم الطبيعي بل أحالهم إلى محاكماتٍ عسكرية لا يَمْثُل أمامها إلا العسكريون، لا لشيء إلا للمعارضة الفكرية والسياسية فحسب.
ثم تم تجميد أموالهم وأموال أولادهم والحجر عليها إلا بقدر ما يتصرف النظام فيها ويسمح لهم به، وغلق أعمالهم وشركاتهم وتعطيل العاملين فيها بما أحدث من زيادة في البطالة، ومثَّل من محاربة للناس في أرزاقهم.
وقبل هذا وذاك الطريقة التي اقتيدوا بها إلى السجون؛ حيث توقيت القبض عليهم (قبيل الفجر)، وما يحدثه هؤلاء من ترويعٍ للزوجة والأولاد والجيران، بالإضافة إلى الإهانة الشخصية والامتهان النفسي الذي يعامَل به هؤلاء المعارضون.
وهذا ما أقصده بالمحاكمات العسكرية هنا؛ حيث لا يقتصر على المحاكمات فحسب، بل يمتد لما يحدث قبلها، وما يمتد في المجتمع حولها.
الحرية مقصد أساسي في التشريع
والسجن تقييد للحرية، وهو ليس عقوبة نصية في الشريعة الإسلامية، وإنما قد يصلح للتعزير، وله أحكامه الشرعية التي ليس الحديث عنها في هذا المقام، والحرية من مقاصد الشرع الحنيف الأساسية التي لا تتحقق المقاصد الضرورية الخمس لحياة الإنسان إلا بها، وهي من القيم العليا والمفاهيم التأسيسية للشريعة الإسلامية التي شُرعت كثير من أحكامها لتحرير الناس من الرق، و"عتق الرقبة" من مفردات الكفارات المشهورة في الفقه الإسلامي في كثيرٍ من الأحكام، وكذلك النهي عن التشديد على العبيد في الخدمة والأمر بكفايتهم وعونهم والنهي عن ضربهم، فالشارع متشوف للحرية- كما يقول الطاهر ابن عاشور الذي أصَّل لمقصدية الحرية- والمرء يولد حرًّا، لكن العبودية تطرأ عليه بفعل البشر، وقد قال عمر بن الخطاب لعمرو بن العاص يومًا: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟".
وحبس المسلم ظلمًا وعدوانًا لمجرد المخالفة الفكرية أو السياسية يتعارض مع هذا المقصد الكبير، بالإضافة إلى ما فيه من ظلم، وهو الأمر الوحيد الذي حرَّمه الله على نفسه: "يا عبادي إني حرمتُ الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا..." رواه مسلم عن أبي ذر، كما يتنافى مع الرحمة، وهو الشيء الوحيد الذي فرضه الله على نفسه: ﴿كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾ (الأنعام: 54)، كما أنه ينافي مقصد العدل الذي أنزل الله الكتب وأرسل الرسل من أجله:﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ (الحديد: 25).
بل إن حفظ حريات الناس أساس لمقاصد الشريعة جميعًا، فحفظ الدين أساسه عدم الإكراه في الإيمان به؛ إذ لا إكراه في الدين، ولا يتحقق لا بحرية الاعتقاد، وهي الجزء الأساسي من حرية الإنسان، وحفظ النفس لا يتحقق إلا بحريتها في التصرف في جميع شئون الحياة بعيدًا عن الإكراه والاستعباد، فلا معنى لحياة إنسان مقيد في تصرفاته أو أسير رغبات سيده، وحفظ العقل لا يتحقق إلا بحرية الاختيار، فهو مناط التكليف وشرط صحة لجميع التصرفات، ولا خلاف بين الفقهاء أن التكليف يسقط عن المكره وفاقد العقل، وحفظ المال لا يتحقق إلا بحق الإنسان في التملك وحرية التصرف في أمواله وأملاكه بما يراه الشرع والقانون، وحفظ النسل لا يتحقق إلا بحرية الإنسان في اختيار الشريك الذي يحقق النسب الشريف.
الأمن الاجتماعي للأفراد والمجتمع من المقاصد الكبرى
ومن المقاصد الأساسية التي يتشوف إليها الشارع وترسخها أحكامه هي الحفاظ على الأمن العام للأفراد والسلام الاجتماعي في المجتمع، فإن من نِعَم الله تعالى على خَلْقه نعمةَ الأمن، ولهذا امْتَنَّ الله تعالى على أهل مكة بأن جعل حَرَمَهم آمنًا، يأمنون فيه من الإغارة أو النهب أو القتل أو السلب أو غيرها، في الوقت الذي لا يأمن فيه غيرُهم، فقال سبحانه: ﴿أوَلمْ يَرَوْا أنَّا جَعَلْنا حَرَمًا آمِنًا ويُتَخَطَّفُ الناسُ من حولِهم﴾ (العنكبوت: 67)، وقد حَرَّم الله تعالى ترويع المسلم وإخافتَه، سواء كان هذا الترويع بالقول أو بالفعل، وسواء كان على سبيل الجد أو اللعب، فقد روى أبو داود بسنده عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: حدثنا محمد- صلى الله عليه وسلم- أنهم كانوا يسيرون مع النبي- صلى الله عليه وسلم- فنام رجل منهم، فانطلق بعضهم إلى حبلٍ معه فأخذه ففزع، فقال النبي- صلى الله عليه وسلم-: "لا يحلُّ لمسلمٍ أن يُرَوِّعَ مسلمًا".
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "مَن نظر إلى مسلمٍ نظرةً يُخيفه فيها بغير حق أخافَه الله يوم القيامة" رواه الخطيب في التاريخ، وهذا يدل على أن ترويع المؤمن أمر عظيم، وحُرْمة ترويعه متحقِّقة ولو كان بمجرد النظرة التي قُصِد منها الإخافة، وتشتد الحرمة إذا كان الترويع إشارة بالسلاح أو بما أجريَ مجراه من الحديد أو نحوه.
وإذا كان الترويع بالنظرة أو برفع سكين- هزلاً- محرمًا على هذا النحو، فكيف بمَن يروعون الناس قُبيل الفجر، ويفزعونهم من نومهم، ويطلعون على عورات البيوت، وينهبون ما يجدونه من أموال وأمتعة، ويقلبون البيوت رأسًا على عقب، ويُدخلون الرعب والفزع على الزوجات والأطفال والجيران في مشهدٍ لا يراعي آدمية الإنسان المكرَّم وحرمته المقررة؟؟ لا شك أن حرمته أشد بقدر ما يحدثه من ترويع خاص وعام.
حفظ المال من المقاصد
وحفظ المال من ضروريات المقاصد أو كلياتها المعروفة؛ فقد شرع الله له ما يحفظه ونهى عن كل ما يهدره ويفسده، فشرع السعي في الأرض والمشي في مناكبها وحث على تحصيل المال من وجوهه المشروعة، ونهى عن إهداره وصرفه في وجوهه غير المشروعة، كما نهى عن سرقته ورتب عليها حدًّا معروفًا، وهكذا، فهناك أحكام شرعية كثيرة- أوامر ونواهٍ- تتشوف إلى حفظ المال.
وما حدث لهؤلاء المدنيين المحالين إلى محاكمات عسكرية من حجرٍ على أموالهم وعدم السماح لهم ولأولادهم بالتصرف فيها إلا بما يسمحون لهم به، وغلق شركاتهم وتعطيل تجاراتهم بما أثَّر على مئات الأشخاص العاملين فيها، وهددهم في أرزاقهم ومعاشهم، هذا كله من الإثم والعدوان؛ لأنه ينقض مقصدًا ضروريًّا من مقاصد الشريعة الإسلامية، وهو حفظ المال، يُضاف إلى ذلك ما كان من آثار مصادرة الأموال وتعطيل الأعمال؛ حيث هروب المستثمرين وتصدع أحوال البورصة، وهو ما يتعارض أو يهدر مقاصد التصرفات المالية في الشريعة وعلى رأسها رواج المال ونماؤه وزيادته كما ذكره الطاهر ابن عاشور، وهي مقاصد تتصل بالمجتمع كما هو واضح.
وما سبق يؤثر- بالتبع- على حفظ النفس؛ لأن النفس قائمة بتموينها ومعالجتِها من الأمراض المهلكة، وما أكثرها في مصر الآن، وما حدث يُشكِّل خطورةً على حفظ النفس؛ لأن التموين والعلاج لا يكون إلا بالمال.
حفظ العقل من المقاصد
شرع الإسلام للعقل ما يحفظه عن طريق طلب العلم والحث عليه، وتحريم كل ما يغيبه من مسكرات وغيرها، لكنْ هناك نوعٌ من تغييب العقل يحتاج لتركيز وإبراز، وهو تغييبه وتضليله معنويًّا، والدور الذي قام به الإعلام الرسمي وبعض غير الرسمي في هذه القضية يمثل تغييبًا للحقائق عن العقول وتضليلها، بحيث لا يحتاج صاحب الإمكانات العقلية المتواضعة لكثير تأمل كي يكشف ما فيها من زيفٍ وإفكٍ وبهتان، بما لا دليل عليه ولا برهان.
وإذا كانت تنميةُ العقل ورعايته أمرًا واجبًا في دين الله، وتغييبُه بالمسكرات وما شاكلها محرمًا بنصوص قاطعة في الثبوت وصريحة في الدلالة، فإن تغييب العقل واغتياله معنويا أشد حرمةً وأعظم جرمًا.
وما يليق بالإسلام الذي كرَّم الإنسان وفضَّله بالعقل على غيره، أن يحافظ على هذا العقل حسيًّا، ثم يترك المحافظة عليه معنويًّا؛ حيث بالمعنويات والروحانيات تتحقق الإنسانية بمعانيها الكبيرة في هذا المخلوق الكريم.
وإهدار حفظ العقل معنويًّا يحتاج إلى مزيد تأصيل لا سيما في ظل الآلة الإعلامية وما لها من خطر محقق وقدرة فائقة على تزييف الحقائق وقلبها، وما حدث مؤخرًا فيما نحن بصدده مثال صارخ على ذلك.
حفظ العرض من المقاصد
وحفظ الأعراض من مقاصد الشريعة بلا ريب، وإن كان بعض الفقهاء من القدماء والمعاصرين اختلفوا في عدِّه ضروريًّا أم حاجيًّا، فإن هذا يدل على أهميته في منظومة المقاصد، وهو لا ينزل بحالٍ من الأحوال عن أن يكون حاجيًّا مما يوقع غيابُه الناسَ في حرجٍ ومشقة، وهو ما تنزَّهت عنه الشريعة الغراء.
ولقد شرع الإسلام الستر على أهل المعاصي من أجل الحفاظ على أعراضهم، ونهى عن الغيبة والنميمة، والخوض في أعراض الناس، والقيل والقال، وندب إلى نهي من يفعل ذلك وزجره، كما حدَّ الشارع حدًّا معروفًا للقذف، ونزلت فيه عشر آيات كاملات في سورة النور تُبرئ أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.
وهؤلاء المحالون عسكريًّا كُيلت لهم الاتهامات بما لا دليلَ عليه، واتُّهموا في سمعتهم وكرامتهم ووطنيتهم، وهو ما يناقض مقصدًا مُهمًّا في مقاصد الشريعة- حفظ العرض- الذي دعا الشارع إلى حفظه بما شرعه من أوامر، وفرضه من عقوبات.
وبعد
إن المتأمل في المشهد في ضوء مقاصد الشريعة سوف يجد أنه ناقض كثيرًا من المقاصد الأخرى، وعارض مفاهيم تأسيسية تبنى عليها الأحكام، وأهدر الكثير من المبادئ العالية والأهداف الكبيرة لأحكام الشريعة الإسلامية.
نخلص مما سبق إلى أن هذا الحدث مخالف لما شرعه الله من مقاصد شرعية معتبرة، من حفظ للمال والنفس والعقل والعرض، وحفظ للحرية، وحفظ للأمن العام والسلام الاجتماعي، وقد رأينا أن منها ما يتصل بالأفراد الذين تعد حرمتهم عند الله أشد من حرمة الكعبة، ومنها ما يتصل بالمجتمع، وكثير منها يتصل بالمجتمع، ومن استقرأ الشريعة وجد أن الشارع الحكيم يرتب العقوبات ويوقع الإثم على ما يتصل بالمجتمع- إفسادًا وتدميرًا- أعظم بكثيرٍ مما يرتبه على ما يتصل بالأفراد عدوانًا وظلمًا.
فإحالة المعارضين إلى محاكمات عسكرية بهذه الصورة وبهذه الملابسات، أمر يستحق فاعلُه غضبَ الله في الدنيا وعقوبته يوم القيامة، وهو مبغوض عند الخلق ساقط من عين الله، يبوء بإثم ما أقدم عليه من معارضة صريحة وظاهرة لما تتشوفه أحكام الشريعة من إرسائه وترسيخه لدى الأفراد والمجتمعات، والله أعلى وأعلم.
--------------
باحث دكتوراه في مقاصد الشريعة الإسلامية بكلية دار العلوم
0 التعليقات:
إرسال تعليق