عاقبة الظلم والظالمين



الحمد لله، الحَكَمِ العَدلِ، والصلاةُ والسلامُ على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، خيرِ من قام بين الناس بالقسط..

لله تعالى في كونه سننٌ ماضيةٌ، لا تتخلَّف ولا تحابي أحدًا، وسننُه في قيام الأمم ونهضتها، أو انهيارها وكبوتها، يراها كلُّ ذي عقل في تاريخ البشرية وحاضرها، وقد جعل الله تعالى العدلَ أساسَ الملك ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ﴾ (النساء: من الآية 58)، وأمر الله تبارك وتعالى الأمةَ المسلمةَ المستخلَفةَ في الأرض بإقامة العدل وتحقيق القسط بين الناس، مهما اختلفت أجناسُهم وألوانُهم بل وعقائدُهم ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8)﴾ (المائدة).

وحذَّر الله سبحانه من الظلم بكافة أنواعه؛ ظلم المرء لنفسه، أو لأهله وعشيرته، وظلم الأغنياء للفقراء، والأقوياء للضعفاء، وظلم الحكامِ للمحكومين، بل وظلمِ الأمم بعضها لبعض، وبيَّن أن عاقبة هذا كله الهلاكُ في الدنيا والعذابُ الأليم في الآخرة.. ﴿وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا (59)﴾ (الكهف)، ﴿وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا﴾ (يونس: من الآية 13)، ﴿فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45)﴾ (الأنعام).

ولقد ضرب الله تعالى المثل بنفسه عز وجل، وهو القادرُ المقتدرُ، القويُّ العزيزُ الجبارُ؛ فقال للبشر جميعًا "يا عبادي، إني حرَّمت الظلم على نفسي، وجعلته مُحرَّمًا بينكم فلا تظالموا" ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40)﴾ (النساء).

والناظر في أحوال العالم اليوم يرى ألوانًا من الظلم، تشقَى بها البشرية جمعاء؛ ظلم الدول الكبرى للدول الصغرى، والدول الغنية للدول النامية أو الفقيرة، وظلم الحكام للمحكومين، وظلم طبقات من المجتمع لطبقات أخرى، وقد رأينا في السابق والحاضر عاقبةَ الظلمِ، كيف هلك الفرس والروم، وكيف تفتَّت الاتحاد السوفيتي، حينما حَكمَ الناس بالحديد والنار، وجارَ على دولة ضعيفة كأفغانستان!.

واليوم هناك نذيرُ شؤمٍ يهدِّد الولايات المتحدة الأمريكية؛ بتجبُّرها على دول العالم، واعتداءاتها بالسلاح والاحتلال والنهب الاقتصادي، واحتلالها أفغانستان والعراق، وتهديد سوريا وإيران، ومحاولتها تفتيت لبنان والسودان، ثم ظلم ربيبتها "إسرائيل" التي أقاموها على أشلاء ودماء الشعب الفلسطيني، الذي ذاق ألوانًا من الظلم لم يذُق مثلَها شعبٌ من شعوب الأرض.

فإذا نظرنا إلى عالمنا العربي والإسلامي رأينا ألونًا من الظلم، هَوَت بنا من القمة إلى الحضيض، بعد أن كنا
﴿خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ (آل عمران: من الآية110)، صرنا في ذيل الأمم..

في المجال السياسي.. صار الاستبدادُ هو السمةَ في كلِّ الأنظمة؛ ملكية كانت أو جمهورية، هي فرعونيةٌ جديدةٌ تخضع لحكم الفرد ﴿مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾ (غافر: من الآية 29).. إهدار الشورى، وتزوير إرادة الأمة وحكمها بالحديد والنار، وتقريب المنافقين واضطهاد الصالحين المخلصين، وتمزيق الأمة، وتسليط بعض الفئات على بعض ﴿وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا﴾ (القصص: من الآية 4).

في المجال الاقتصادي.. احتكار الثروة لفئات محدودة، وحرمان جموع الشعب من ثمارِ عملها، وإهدار الطاقات والتفريط في الثروات وبيعها للأعداء وبأبخس الأسعار مقابل عمولات، تصبُّ في جيوبِ قلةِ ومليارات، تقترضُ من البنوك بلا ضمانات، ومليارات أخرى تهرَّب إلى الخارج، والنتيجة فقرٌ مدقعٌ واحتياجٌ وذلةٌ لكل دول العالم.

في المجال الاجتماعي.. تفاوت رهيب بين الطبقات، ينذرُ بصراعٍ اجتماعيٍّ يأكل اليابسَ والأخضرَ، وإفساد أخلاقي يقوم به المترفون ليُلهوا جموع الشعب بالمعاصي والشهوات، وشيوع المحسوبية والمحاباة في مقابل إهدار الكفاءات والمواهب، حتى صار اليأسُ والإحباطُ سمةَ الكثير من شباب الأمة الذي لا يجد عملاً ولا تقديرًا ولا تشجيعًا، فضاع بعضه انتحارًا وهجرةً إلى بقاع العالم.

في المجال الأمني.. أصبحت مهمة الأمن تكميمَ الأفواه ومصادرةَ الحرياتِ ومطاردةَ الأطهار الأبرياء وتلفيقَ التهم، بدلاً من مطاردة اللصوص والخارجين عن القانون والمعتدين على أرواح الناس وأعراضهم وممتلكاتهم.

فكانت النتيجة أن سقطنا، أو أوشكنا، أن نسقط من عين الله، والله تبارك وتعالى لا يحابي أحدًا
﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا (123)﴾ (النساء)، وقد حذّرنا سبحانه "إذا عصاني من يعرفني سلطت عليه من لا يعرفني".

وبين أن عاقبة الظلم تنالُ الجميع؛ الظالم بجبروته وطغيانه، والساكت عن الحق "شيطان أخرس وجموع الأمة إن توانت عن استخلاص حقوقها من أيدي الظالمين.. ﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25)﴾ (الأنفال).

عقاب آخر.. أشد وأبقى
نحن الآن في عقاب الدنيا، ذلٌّ وهوانٌ، وتخلُّفٌ وهزيمةٌ، وجوعٌ وفقرٌ، واحتلالٌ وسفكُ دماء، لكنَّ هناك عذابًا أشدَّ وأبقى، ينال كل ظالم مهما علا وتجبَّر، لا يستطيع له دفعًا ﴿يَوْمَ لا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمْ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52)﴾ (غافر) ﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46)﴾ (غافر) ﴿فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26)﴾ (الفجر).

التوبة والعدل.. قبل فوات الأوان
إننا نهيب بكل ظالم أن يفيء إلى أمر الله فيكفَّ عن ظلمه لنفسه أولاً، ثم لكلِّ مظلوم ناله بأذى في نفسه أو ماله أو عرضه ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (281)﴾ (البقرة).

* أطلقوا الحريات.. احترموا كرامة الإنسان.. أشيعوا الأمن والأمان.. ساووا بين الناس في الحقوق والواجبات.. كفُّوا عن تزوير إرادة الأمة.. احترموا أحكام القضاء.. قدِّموا الكفاءات.. احترموا المواهب والطاقات والآراء.

* اعدلوا في توزيع الثروات (فما جاع فقير إلا بتخمة غنى).. ادفعوا الشباب إلى العمل النافع بدلاً من اللهو الضائع.. نقِّبوا في ثروات الأرض ولا تبيعوها للأعداء.. صونوا ممتلكات الأمة ولا تهدروها فتهلكوا الحاضر والمستقبل.

* أجمِعوا الصفوف، ووحِّدوا الأمة، واجعلوا سلاحكم في وجه أعدائكم، واعرفوا عدوَّكم ولا تعادوا شعوبكم.

* أطلقوا سراحَ الأبرياء الشرفاء، وردُّوا إليهم أموالَهم وشركاتِهم ومصالحَهم، بل عوِّضوهم وأهليَهم عما نالهم من أذى وحرمان وتشويه، وأنزلوهم منازلَهم، ولا تقفوا من هذه الجماعة موقف الخصومة والعداء؛ فهي أمل الأمة في الإصلاح، وهي القادرة مع الشرفاء من أبناء هذه الأمة على إنقاذها من كبوتها.

* عودوا إلى الله واصطلحوا مع شعوبكم، واحكموا بشريعة ربكم، واهتدوا بهدي نبيكم صلى الله عليه وسلم
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾ (الأنفال: من الآية 24).

والله الهادي إلى سواء السبيل، والله أكبر ولله الحمد..
وصلى الله على سيدنا محمد، والحمد لله رب العالمين

0 التعليقات:

 

اخوان دار العلوم Copyright © 2009 WoodMag is Designed by Ipietoon for Free Blogger Template

') }else{document.write('') } }