المقامة الفلسطينية



بقلم : د. عائض القرنى

﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)﴾ (الإسراء).

أطفالُ يَافاَ يصرُخون وما لهُم *** عَمرو ولا سَعد ولا خَطَّابُ
يَا رَبُّ يا رحمنُ فانصُر أمَّةً *** قَد أُغلقَت من دُونِهَا أبَوابُ
زارنا رجلٌ من فلسطين، فجلس على الطين، قلنا: اجلس على السرير.
قال: كيف أجلس على السرير، والقدس أسير، بأيدي إخوان القردة والخنازير.
قلنا: فهل عندك من القدس خطاب؟
قال: معي من القدس سؤال يريد الجواب.
قلنا: ما هو السؤال؟
قال: ينادي أين الرجال؟ أين أحفاد خالد وسعد وبلال؟ يا حُفاظ سورة الأنفال، أين أبطال القتال؟ أين أسود النزال؟
قلنا: هؤلاء ماتوا من زمان، وخلت منهم الأوطان، وخلف من بعدهم خلفٌ لهم همم ضعيفة، واهتمامات سخيفة، وأحلام خفيفة.

ثم سأل حامل الرسالة، أين أهل البسالة؟ أين الإباء؟ لماذا تغيَّر الأبناء عن الآباء؟قلنا: الآباء كانت بيوتهم المساجد، ما بين راكعٍ وساجد، وخاشع وعابد وصائم ومجاهد.والأبناء بيوتهم المقاهي، ما بين مُغَنٍّ ولاهٍ، ومن بماله يُباهي، ومن وقع في الدواهي، إلا من رحمه إلهي.

كُنَّا أسودًا مُلُوكُ الأرض ترهبنا *** والآنَ صرنا فؤير الدَّار نخشاهُ
ثم قلنا للرجل في عجل: سلِّم على القدس، وقل: نفدكِ بالنفس، متى العودة إلينا؟ والسلام علينا.
قال: إذا عُدتم إلى الله عُدنا، وإن بعدتم عنه بعدنا.
نساءُ فلسطين تَكَحَلَّنّ بالأسى *** وفي بيت لحمٍ قَاصِراتٌ وقُصَّرُ
وليمُونُ يافَا يابسٌ في حُقُولِهِ *** وهل شَجَرةٌ في قَبضَةِ الظُّلمِ يُثمرُ
قلنا: لماذا عُدت لعمر؟
قال: لأنه صاحب أثر، صادق في الخبر عادل في السِّير.
قلنا: ولماذا جئت مع صلاح الدين؟
قال: لأنه بطل حطين، وولي لرب العالمين،؟ وأحد العابدين المجاهدين.
قلنا: يا قدس هل من لقاء؟
قال: إذا أطعتم رب الأرض والسماء، وأخلصتم في الدعاء، وتدربتم على الجهاد صباح مساء، وتُبتُم من كل معصيةٍ وفحشاء.
قلنا: كيف حالك الآن؟
قال: في هموم وأحزان، وغموم وأشجان، سجين في زنزانة الطغيان، بعد ما فارقت أهل الإيمان، وحملة القرآن.

ثم قال: أما ترون خدي شُوِّه بالنجمة السداسية، وداست على وجهي الدولة الإبليسية، أين أحفاد مصعب بن عمير، لينقذونا من أبناء جولدا مائير؟ أين أمثال عمر بن عبد العزيز، ليطلقونا من قبضة بيريز؟ أين عُبَّاد الدَّيان، ليمسحوا عن جبيني وشم ديان؟ أين طلاب عبد الله بن مسعود، ليطردوا إخوان القرود، ويفكوا عن قدمي القيود؟.

ثم قالت: أنا القدس السَّليبة، كنت إلى الرسول حبيبة، ومن قلب كل مؤمن قريبة، وأنا الآن في بلاء ومصيبة، وأحوال عجيبة.

فلسطين في قلوب المسلمين، تُناديهم من سنين، وليس فيهم مَن قال: لبيك جئنا فاتحين، لكنا تعبنا من محبةِ أهل الإرجاء تمدّح وادّعاء، وفلسطين تصرخ صباح مساء.

إذا لم تكن هنا حَمِيَّة إسلامية، فأين النخوة العربية؟!.
لو سمع عمر صرخة طفل مجهود، أبوه مفقود، وأخوه في القيود، لجنَّد الجنود ولَدَاسَ اليهود. لو طرقت سمع المعتصم واأماه، لضاقت عليه أرضه وسماه؟، ولقاد الكماة، ولأخرج فلسطين من زنزانة الطغاة البغُاة.

فلسطين تنادي حطِّين: هل عندك من صلاح الدين؟ فإنَّا يا أُختاه في الحبس مرتهنين، ولنا أنين.

خمسون عامًا ونحن نرى أيتامًا، ونشاهد أيامى، ونُبصِر آلامًا، ثم نتعامى، ولا يحرك فينا هذا كله إبهامًا.

مَن أراد أن يُطلق القدس من الأسر وأن يفكه، فليأخذ دستوره من مكةَ، القدس إسلامية ما ترطن، ولا تنظر النصر من واشنطن.

يحرر الأرض، ويحمي العرِضَ، مَن أدَّى الفرض، وخاف يوم العَرض.

دونك مليار مسلم آيِسون بائسون، أمام من قيل لهم ﴿كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ﴾ (الأعراف: من الآية 166).

ما يحرر فلسطين إلا طلاب العز بن عبد السلام، وتلاميذ عز الدين القسام.

افهمها بالمكشوف، ما يحرر فلسطين طلاب سخاروف، ولا يردّها لأهلها أهل الدفوف، إنما تعود على أيدي مَن يُصلي ويطوف، ويجاهد في الصفوف.

يا شجر الغرقد، جاء الموعد، ليعود المسجد، تحمي القرود، وتخبئ اليهود من الأسود، كل الشجر بوادينا ينادينا، إلا أنت تعادينا.

خمسون عامًا مؤتمرات أو مؤمرات، ومشاورات أو مشاجرات، ومناورات أو مهاترات.
الكل يطوف بمجلس الخوف، ونحن وقوف في صفوف، ننتظر ماذا يقول بوش وجورباتشوف.
خمسون عامًا ما أخبرتنا هيئة الأمم، بمن ظلم، وهدم الحرم، وخان في القسم.
يا معشرَ العرب: مَن أصابته مصيبة، فلم يأخذ الحل من طيبة، عاد بالخيبة، وكان الفشل نصيبه.. فلسطين لا تعود بالكلام، ولا بحفلاتِ السلام، ولكنها تعود بالحسام، وبضرب الهام، وتمريغ الباطل بالرغام.

فلسطين إسلامية النسب، وليست عربية فحسب، ولذلك كان صلاح الدين فاتح القدس من الأكراد، والسلطان عبد الحميد ناصر فلسطين من الأتراك الأجواد، وبعض العرب أيام الصليبين باعوها في سوق المزاد.. لا تعود فلسطين عن طريق المُلحدين، ولا عن طريق المفسدين، وإنما تعود تحت رايات المُحِّدين.

هل تظن أن اليهودي العنيد، والإسرائيلي المريد، سوف يُطرَد بمؤتمر مدريد، كلا وعزَّةِ الحميد المجيد، لا يزول إلا بكتائب التوحيد، وأحفاد خالد بن الوليد.

يا فلسطين انتظري كتائبنا مع الصباح، تنادي حيّ على الفلاح، ليعود الحق على أصحابه، والسيف إلى نصابه، ولتعود الوديعة إلى واليها، والطفلة إلى أبيها، والدار إلى راعيها، ﴿وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ﴾ (الروم: من الآية 4) بنصر الله القريب، إنه سميع مُجيب.

فلسطين غاب سلاطينها، فأفلس طينها، لا يطرد الغزاة من غزة إلا أهل العزة، أطفال حيفا حُفاة، واليهود جُفاة، فهل مَن يُلبي النداء، يُقدِّم روحه فداء، يا مَن أراد الجنة، لا تتبع ما أنفقت بالأذى والمنة، وماذا عليك لو قتلتك اليهود فأنت شهيد، البيع قد جرى، والله اشترى، فاهبط سوق القتال، وقل هيا إلى النزال.. ﴿إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)﴾ (التوبة).

لا تُهَيِّئ كَفَنِي مَا مِتُّ بعدُ *** لم يَزَل في أضلعِي بَرقٌ ورَعدُ
أنَا تَارِيخي ألا تعرفُهُ *** خَالدٌ يَنبِضُ في قَلبي وَسَعدُ

0 التعليقات:

 

اخوان دار العلوم Copyright © 2009 WoodMag is Designed by Ipietoon for Free Blogger Template

') }else{document.write('') } }