مصر جعلت من "الكيان" دولة نووية

بقلم : د. جابر قميحة

في هذه الأيام المشحونة بالأحزان والمآسي الدامية تقفز إلى ذهني نادرة عربية طريفة؛ تتلخَّص في أن أحد الأعراب رأى ذئبًا رضيعًا وحيدًا، ربما قُتِلَت أمه، فأخذ الذئب الوليد، وربَّاه مع قطيعه من الأغنام، وعاش يرضع من إحدى نعاجه، إلى أن شبَّ عن الطوق وقام على رجليه، وذات يوم ذُهِلَ الأعرابي الراعي حينما رأى هذا الذئب وقد بقر بطن النعجة التي عاش على لبنها، وأكل كبدها، وأخذ ينظر إليها بلا مبالاة؛ فتعجب الأعرابي مما حدث؛ لأن أحدًا لم يخبر هذا الضيف الذي ربَّاه بأنه من نسل الذئاب، فانطلق الأعرابي بالأبيات الآتية:
بقرتَ شويْهتي وفجعتَ قلبي وأنت لشاتنا ولدٌ ربيبٌ
غذِيت بدَرِّها وربيت فينا فمن أنبأك أن أباك ديبُ
فإن تكن الطباع طباعَ لؤم فلا أدبٌ يفيدُ ولا أديب

وإذا أردنا أن ننسب مسئولية هذه الفجيعة؛ فلا يشك أحد أن المسئول الأول- بل الوحيد- هو الأعرابي الراعي، وهذه المسئولية تنطلق من ركيزتين:

الأولى: هي الجهل بطبيعة الأحياء.
والثانية: هي الإهمال والإغفال وانعدام التحلي بالحذر.

وبتعبير قانوني نقول: إنها "جريمة بالترك"؛ شأنها شأن الأم التي تترك وليدها بلا إرضاع إلى أن يموت، فالأم قد ارتكبت في هذه الحال جريمة "قتل بالترك".
**********

وهذه الحقيقة تدفعنا إلى التوقف أمام واقع النصف الثاني من القرن الماضي؛ أواخر عهد الملك فاروق، وسنوات الثورة التي قالوا عنها الثورة الميمونة، التي قامت سنة 1952م، وقد كتبت في يومياتي كلمات عن هذه الثورة وجناياتها على الشعب المصري بل على العرب والعروبة:

كنت في الثامنة عشرة من عمري في السنة النهائية من المرحلة الثانوية، حينما قامت الثورة المصرية سنة 1952م على رأسها قائدها محمد نجيب؛ الذي كان موثوقًا به على مستوى الشعب كله، ووقف الشعب وراء الثورة بشيبه وشبانه، ورجاله ونسائه.. كان الشعب يأمل في حياة مناقضة للحياة التي كان يحياها في العهود "البائدة".

كان يأمل في "كفاية" حقيقية و"عدل" مطلق بعد عصر الإقطاع الظالم، والفلاح المطحون.كان يأمل في تحرير فلسطين؛ بعد أن سقطت تحت أقدام عصابات "الهاجاناة وشتيرن" وأرجون زفاي ليومي، ومعروف أن الكيان الصهيوني قام على الدم والعدوان، وكان شعبنا يأمل في وحدة عربية حقيقية تقوم على أسس راسخة ومبادئ ناصعة تستمد ماضي الأمة المجيد، وتعالج ما تعانيه الشعوب العربية من التخلُّف التقني والاجتماعي والاقتصادي؛ أخذًا بأحدث الوسائل وأنجعها وأكثرها تقدمًا.

كان يأمل في أن يتمتع بحرية حقيقية في التفكير والتعبير، ونظام نيابي شوري حقيقي أمين.. بريء من التزييف والتزوير.

كان يأمل في "سيادة القانون" بعيدًا عن سيادة الرئيس والحواريين من المنافقين والنفعيين.فما تحقق من هذه الآمال شيء؟!

وأعتقد أن صوت "الواقع المر" الذي نعيشه من نصف قرن يعتبر أقوى جواب وأصدق بيان؛ فقد أزيح "محمد نجيب"، وبعد ضربه من بعض ضباط عبد الناصر أُلقي به معتقلاً في "أنشاص"، لا رفيق له إلا عشرات من القطط كان يُلقَى إليها بفتات من بقايا طعامه، كما حُوكم أبطال الثورة الحقيقيون؛ من أمثال عبد المنعم عبد الرءوف وأبي المكارم عبد الحي، وأصبح عبد الناصر هو الدولة والقانون، والحاكم المستبدّ المطلق؛ الذي لا يقال له "لا" ولا تُرَدّ له مشيئة.

وتحوَّلت الثورة البيضاء إلى ثورة دامية حمراء، فأُعدم العاملان خميس والبقري، ثم ظهرت براءتهما، وأُعدم عبد القادر عودة وإبراهيم الطيب وهنداوي دوير ويوسف طلعت ومحمود عبد اللطيف؛ بعد افتعال "مسرحية المنشية"، وادعاء محاولة اغتيال عبد الناصر، وأُعدم سيد قطب صاحب ظلال القرآن وآخرون؛ بتهمة تشكيل تنظيم إخواني لقلب نظام الحكم ونسف السد العالي!.

وأضاع الزعيم "الملهم" بعبقريته ما تبقَّى من فلسطين، واستطاع بعبقريته أن يحصد لنا هزيمتين قاصمتين سنتَي 1956م، و1967م.

ونام "الثوريون" علميًّا وتكنولوجيًّا، ثم أفاقوا من نومهم الطويل؛ فإذا بالكيان الصهيوني يملك عشرات من القنابل الذرية، ومئات من الرءوس النووية، وأصبح في الصف الأول من الدول المصدِّرة للتكنولوجيا.

أما الوحدة العربية التي كانت هدفًا من أهداف الثورة فالحديث عنها يبدو مضحكًا؛ بعد أن اكتشف العرب "منهج ثوارنا" في إحداث الانقلابات والفتن وشراء العلماء، وانتهى الأمر إلى التطبيع، وزرع التنافر المخزي بين الحكومات العربية؛ حتى أصبح بأسهم بينهم شديدًا.

وأُلغيت الأحزاب المصرية، ولم تعرف مصر بعدها "واقعيًّا" إلا الحزب الواحد.. حزب السلطة.. هيئة التحرير، ثم الاتحاد القومي، ثم الاتحاد الاشتراكي، ثم حزب مصر، ثم الحزب الوطني صاحب الأغلبية المزعومة، وأصبحت حياتنا ومجالسنا النيابية أضحوكةً في أنظار العالم.

وغصَّت السجون المصرية بعشرات الألوف من الأبرياء، ومنهم من قتل من التعذيب بلا ذنب جناه، وضربت مصر رقمًا قياسيًّا في تحمل "قانون طوارئ" على مدى عشرين عامًا خنق فيها القانون والدستور، وعطِّلت فيها أحكام القضاء، وأصيب الاقتصاد المصري بانهيار شامل؛ بعد أن أمَّمت الدولة كل شيء، حتى أكشاك الفول والطعمية، وأصبحنا نستورد 75% مما نأكل ونلبس، بعد أن كانت مصر تُطعم وتموِّن جيوش العالم في الحرب العالمية الثانية، وبعد أن كانت تقدم "معوناتٍ" غذائيةً لبعض الدول والإمارات المجاورة، وكذلك كانت تقدم مدرسيها وتتحمَّل مرتباتهم.

ونجحت "الثورة الميمونة" نجاحًا باهرًا في تفريغ الإنسان المصري من الداخل بإغراقه في بحر من المشكلات.. في الإسكان، والطعام، والملبس، والتعليم، ففقد الشعور بالسلام الاجتماعي، والاستقرار النفسي، وأصبح يشعر بالغربة الروحية الحادة في وطن لا مكان فيه للقانون، ولا مكان فيه إلا لمن أخذ نفسه بمنظومة النفاق، والكذب، والبراعة في السرقة، والاختلاس، و"التظريف" و"التليين" وإنا لله وإنا إليه راجعون.

**********
وكنا ننتظر أن يكون هناك تقدم مطرد في المجالات العسكرية والعلمية والتقنية، ولكن شُغِل الثُّوارُ بضرب الإسلاميين؛ فشنَقوا من شنَقوا، وسَجَنوا من سَجنوا، وشرَّدوا من شرَّدوا، وهم نائمون نومة الأعرابي عن الذئب الرضيع الذي شبَّ، فالتهم النعجة التي كانت أمه في الرضاع.. نعم نام الثوار الأحرار عن الكيان الصهيوني الذي كان تعمل في صمت، مجندًا أفضل العلماء في هذه المجالات، إلى أن تمكَّنوا من صنع أول قنبلة ذرية.

ولا أنسى ذلك اليوم من صيف سنة 1965، وكنا نستمع لمحاضرة في قاعة المحاضرات بكلية التربية بجامعة عين شمس (وكانت في حي المنيرة بالقاهرة)؛ يلقيها حسن صبري الخولي المتحدث أو الممثل الشخصي للرئيس عبد الناصر، متحدثًا عن مكانة مصر العظمى في العالم كله، وعن تقدمها العلمي المطرد، وجاء ذكر "إسرائيل" في تضاعيف محاضرته، فوجَّه إليه واحد منا سؤالاً؛ مؤداه: تردِّد وكالات الأنباء أن "إسرائيل" قد اخترعت أو قد صنعت قنبلة ذرية؛ فما رأي سيادتكم؟ وما موقفنا كدولة لو صح هذا؟!

فجاء جواب "الدكتور" حسن صبري الخولي مصحوبًا بابتسامة إزراء واستهتار: إسرائيل لم تصِل حتى الآن إلى صنع قنبلة ذرية، وإذا علمنا أنها ستصنع القنبلة الذرية بعد أسبوعين مثلاً فإننا سنقوم بشن "الحرب الوقائية" ضدها قبل ذلك بأيام.

ووجدتني أسمع هذا المصطلح لأول مرة في حياتي، وأصبح هذا المصطلح ذريعةً لكل معتدٍ بلا وجه حق، فبوش مثلاً يزعم أن دخول الجيش الأمريكي العراق جاء من قبيل "الحرب الوقائية"؛ أي لحماية شعوب المنطقة من أخطار صدام حسين، وأثبتت الأيام كذبه وإفكه.

**********
ويحسن في هذا المقام أن أقدِّم سطورًا مما كتبه عالم متخصص هو الرئيس الأسبق للهيئة المصرية للطاقة الذرية الدكتور فوزي حماد؛ الذي أكد أن إسرائيل دولة نووية؛ تحيط قدراتها في هذا المجال بالغموض، منتهجةً سياسة الردع بالشك لإشاعة الخوف لدى جيرانها، بزعم أن تلك الدول تهدد أمنها.

ولفت حماد في تصريحات خاصة لـ(الجزيرة نت) الانتباه إلى أن تل أبيب تمتلك ترسانةً نوويةً كبيرةً تجعلها تتبادل المركز الخامس والسادس مع الصين، مشيرًا إلى امتلاكها مخزونًا نوويًّا يتراوح بين 300 و400 قنبلة نووية وصواريخ حاملة رؤوس بعيدة المدى، فضلاً عن امتلاكها قنابل هيدروجينية ونتروجينية.

وأشار الخبير النووي إلى خطورة امتلاك الدولة العبرية للسلاح النووي، واصفًا حجم التهديدات الذي تشكِّله قوة إسرائيل النووية على العرب بأنه كبير للغاية، مستشهدًا بما ردَّده ديفد بن جوريون مؤسس إسرائيل من أن السلاح النووي خير وسيلة لتحقيق التوازن مع الدول العربية، وتحييد التفوق العربي العددي.

إسرائيل امتلكت أول قنبلة نووية عام 1966م، ثم قامت بتصنيع القنبلة الهيدروجينية عام 1983، علمًا بأن البرنامج النووي يخضع لإشراف مباشر من رئيس الوزراء، وقال إن برنامج إسرائيل النووي بدأ عام 1954 تحت سمع وبصر العالم وبمساعدة أمريكية؛ حيث حصلت تل أبيب من أمريكا على المفاعل النووي "ناصال سويرك"، كما أن بناء مفاعل ديمونة تم بالاتفاق مع فرنسا أثناء الاستعداد للعدوان الثلاثي على مصر عام 1956.

وحسب أقوال المسئول المصري السابق فإن إسرائيل امتلكت أول قنبلة عام 1966، ثم قامت بتصنيع القنبلة الهيدروجينية عام 1983، وجاءت قنبلة النترون كمولود إسرائيلي له اتساع أقل وتأثير أكبر؛ في إطار برنامج يخضع لإشراف رئيس الوزراء مباشرةً.

*********
ألا يعدُّ إغفال حكامنا الثوريين ما تفعله إسرائيل على مدى هذه العقود، وتحقيقها هذا التقدم النووي الهائل.. ألا يعد هذا الإغفال "جريمةً بالترك" يترتب عليها تفوقهم الهائل، بل تفردهم بما حققوا في هذا المجال؟ وهم إذا هددوا فإنما ينطلقون من ركائز علمية على المستوى العالمي كله، ومع ذلك تعلو أصواتنا: بأننا نتقدم في كل المجالات، ويعلو مستوانا في كل النواحي والموضوعات، وهذا صحيح: نتقدم حقًّا بسرعة مذهلة.. ولكن إلى الخلف، ونعلو.. ونعلو.. ولكن إلى أسفل؛ فنحن- كما يقول المثل الصيني-: نعتقد أننا عمالقة لأننا نبصق إلى أعلى.

نعم.. اذكروا أيها الحكام الثوريون هذه الحقيقة، واذكروا ما قاله الراعي الأعرابي (القاتل بالترك) مخاطبًا الذئب الخائن:
بقرتَ شويْهتي وفجعتَ قلبي وأنت لشاتنا ولدٌ ربيبٌ
غذِيت بدَرِّها وربيت فينا فمن أنبأك أن أباك ديبُ
فإن تكن الطباع طباعَ لؤم فلا أدبٌ يفيدُ ولا أديب
-------

0 التعليقات:

 

اخوان دار العلوم Copyright © 2009 WoodMag is Designed by Ipietoon for Free Blogger Template

') }else{document.write('') } }