رحم الله أبا فراس الحمداني الذي قال:
سيذكرني قومي إذا جدَّ جدهم وفي الليلة الظلماء يُفتقد البدر
وفي سياق ما نكتب يهمنا من البيت شطره الثاني (الليلة الظلماء يفتقد البدر)، فنحن من يوم أن قامت الثورة "الميمونة" (!!!!) سنة 1952م ونحن نعيش ليالي حالكات، أشدها ظلمًا وظلامًا العهد المباركي الذي نعيشه الآن، وسبق أن ذكرنا من قبل أن السيد الرئيس محمد حسني مبارك تعد مدة حكمه حتى الآن أطول مدة حكمها حاكم في مصر (باستثناء محمد علي باشا)، فمدة حكمه أطول من مدتي حكم الملكين فؤاد الأول، وابنه فاروق الأول، ومدة حكمه أطول من مدة حكام الثورة جميعًا (محمد نجيب، وجمال عبد الناصر، وأنور السادات)، وما زال السيد الرئيس يميل إلى التجديد للمدة السادسة.
وهذا ما يجعلنا نقف أمام حاكمين مسلمين: إفريقي وأسيوي كانا صادقين مع شعوبهما، فأدَّى كل منهما مهمته، ثم ترك الرياسة لأعمال إنسانية وإسلامية وعربية، كانت الأمة في أشد الحاجة إليها: إنهما سوار الذهب في السودان، ومهاتير محمد في ماليزيا، وفي ظل حكم الكروب والسقوط نتذكر هذين الشامخين "فبضدها تتميز الأشياء"، وحتى لا يتهمنا أحد بالإسراف والغلو والخطأ نلقي أضواء سريعة على كلٍّ منهما:
عبد الرحمن سوار الذهب:
- اختير رئيسًا للمجلس الأعلى العسكري الانتقالي في السودان.
- شغل منصب رئيس الجمهورية السودانية حتى عام سنة 1985م؛ حيث أعاد البلاد للنظام الديمقراطي، وسلم الحكم لمَن انتُخب عام 1986م.
- اعتزل سوار الذهب العمل السياسي ليتفرغ لأعمال الدعوة الإسلامية والعمل الخيري؛ حيث ترأس مجلس أمناء منظمة الدعوة الإسلامية في السودان, والتي كان من إنجازاتها:
1- تشييد أكثر من 55 مدرسة ثانوية، و150 مدرسة ابتدائية ومتوسطة.
2- تشييد أكثر من 2000 مسجد في إفريقيا وشرق أوروبا.
3- حفر أكثر من 1000 بئر للمياه، وحفر أكثر من 10 محطاتٍ للمياه في إفريقيا.
4- تشييد 14 مستشفى عام ومتخصص، وحوالي 800 مستوصف، و120 مركزًا للطفولة والتغذية ورعاية الأمومة والتحصين.
5- تشييد 6 ملاجئ للأيتام والإشراف عليها في إفريقيا.
قدَّم بحوثًا في مؤتمرات كثيرة عن الإسلام والدعوة إليه، والتحديات التي تواجهه؛ وذلك على المستوى المحلي، والإسلامي، والعالمي, وهو عضو في إحدى عشرة مؤسسة إسلامية وعالمية.
يعد المشير سوار الذهب من أبرز الشخصيات الإسلامية ذات الشهرة العالمية، كما يحظى بتقديرٍ عالٍ لمصداقيته في التخلي طواعيةً عن الحكم برًّا بوعده، ولما قام به من جهود في خدمة الإسلام والمسلمين.
ويشغل حاليًّا منصب رئيس مجلس أمناء منظمة الدعوة الإسلامية في السودان، ويعود الفضل إلى تلك المؤسسة في تشييد المساجد، المستشفيات، ملاجئ الأيتام ومراكز رعاية الطفولة.حاز على جائزة الملك فيصل لخدمة الإسلام عام 2004م.
*****
مهاتير محمد:
مهاتير محمد وُلد في 20 يونيو 1925م، كان رئيس وزراء ماليزيا في الفترة من 1981م إلى 2003م, له دور رئيسي في تقدُّم ماليزيا بشكلٍ كبير، إذ تحولت من دولة زراعية تعتمد على إنتاج وتصدير المواد الأولية إلى دولة صناعية متقدمة يساهم قطاعا الصناعة والخدمات فيها بنحو 90% من الناتج المحلي الإجمالي، وتبلغ نسبة صادرات السلع المصنعة 85% من إجمالي الصادرات، وتنتج 80% من السيارات التي تسير في الشوارع الماليزية.
وكانت النتيجة الطبيعية لهذا التطور أن انخفضت نسبة السكان تحت خط الفقر من 52% من إجمالي السكان في عام 1970م، أي أكثر من نصفهم، إلى 5% فقط في عام 2002م، وارتفع متوسط دخل المواطن الماليزي من 1247 دولارًا في عام 1970م إلى 8862 دولارًا في عام 2002م، أي أن دخل المواطن زاد لأكثر من سبعة أمثال ما كان عليه منذ ثلاثين عامًا، وانخفضت نسبة البطالة إلى 3%.
وقد قال يوم مغادرته سدَّة الحكم: "لن أتولى أيَّ مسئوليات رسمية بعد 31 أكتوبر 2003م؛ لأنَّه من المهمِّ أن يتولَّى قيادة ماليزيا جيل جديد بفكرٍ جديد".
علَّق أحد الصحفيين بقوله: "هذا آخر ما تحدَّث به هذا العبقري... إبداعٌ في البدايات، وروعة في النهايات، حقًّا هو إحدى المعجزات!".
سأله الصحفي جمال عصام الدين، عن استقالته، قائلاً: "لماذا قرَّرتَ بإرادتك ترك السلطة، رغم وهجها، ورغم ما حقَّقته في ماليزيا؟ إن هذا شيء لا نعرفه في بلادنا يا سيدي؟".
فأجاب مهاتير محمد بقوله: أودُّ أن ألفت نظرك إلى شيئين:
أولهما: أنِّني لم أكن أوَّل من استقال من رئاسة الحكومة في ماليزيا؛ لأن رئيس الوزراء الذي سبقني مباشرة: حسين أون، قدَّم استقالته عام 1981م، وإن كان لأسباب مختلفة عن أسباب استقالتي، وهي المرض، ولكن على أيَّة حال فإنَّ الرجل عندما وجد أنه غير قادر صحيًّا على ممارسة سلطاته، لم يتردَّد في تقديم استقالته.
الشيء الثاني: أنني صحيح استقلت في آخر أكتوبر 2003م، ولكنَّ الحقيقة أيضا أنَّني كنت أنوي الاستقالة قبل ذلك بكثير، وبالتحديد في أواخر 1997م، بعد 16 عامًا من الحكم، ولكن عندما اندلعت الأزمة المالية في جنوب شرق أسيا، واجتاحت معها ماليزيا، وجدتُ أنَّه من واجبي أن أبقى في السلطة في هذا الوقت العصيب، وعندما مرَّت الأزمة بسلام اخترت خريف 2003م لتقديم استقالتي؛ لأنَّ هذا العام شهد استضافة ماليزيا لمؤتمرين مهمَّين هما: مؤتمر قمَّة منظمة المؤتمر الإسلامي في أكتوبر 2003م، ومؤتمر قمَّة عدم الانحياز في فبراير 2003م.
بنهاية هذين المؤتمرين رأيتُ أنني أكون بذلك قد أدَّيت ما عليَّ، وحقَّقت ما أريده لماليزيا، وأنـَّه لا يمكنني البقاء بعد ذلك".
- سأله الصحفي: هل معنى ذلك أنَّ البقاء في السلطة لم يكن هدفًا في حدِّ ذاته، بالنسبة لك؟فأجاب مهاتير: بقائي في السلطة لم يكن أبدًا هدفًا في حدِّ ذاته. كانت عندي فكرة وهدف أردت تحقيقهما في ماليزيا، وعندما رأيتُ أنني نجحت، قلت: يجب أن أستقيل، وإذا أردت أن أخدم ماليزيا، فيمكنني أن أفعل ذلك أيضًا وأنا خارج السلطة.
*****
إن ما ذكرناه إنما هو خطوط سريعة في شخصية زعيمين عظيمين دخلا التاريخ من أوسع أبوابه، فإذا نظرنا إلى العهد الذي نعيش فيه وجدناه "عهد أسوار" كما ذكرنا في العنوان.فمصر تحولت فيه إلى سجنٍ كبيرٍ حوله أسوار عاتية، وداخل هذا السجن الكبير سجون أصغر تضم الآلاف من أطهر أبناء وطننا مصر، وأعلاهم ثقافةً وأنظفهم يدًا.
وقد كتبتُ ذات يومًا على لسان واحدٍ من هؤلاء قصيدة تمثل البراءة والولاء لهذه الأمة من ناحية، وتجسد مفاسد الحكم ومظاهر سقوطه من ناحيةٍ أخرى. ومما جاء في هذه القصيدة على لسان هذا المعتقل البريء:
لا تظنوا الرمادَ يعنِي خُمودا = إن تحتَ الرمادِ جمرًا.. ونارا
لا تظنوا السكــونَ يبقى سكونًا = إن خلفَ السكون عصْفًا مُثارا
فكفانا.. خمسون عامًا من الظلـ = ــمِ أذقتم فيها العبادَ المرَارا
كـم وعدتـم، وكـم نقـضتُم وُعودًا = وعهودًا، وخُنْتمو الأحرارا
كـم سمعـنا عن الكفـاية والعدْ = ل، ومستقبلٍ يفيضُ ازدهارا
فإذا عدْلكم ظلامٌ.. وظلم = وكفاياتكم.. أرتْـنا الخَسارا
قد تسلَّمْتمُو البناءَ صُروحًا = وبأيديكمُو هوَى.. وانهارا
فالرشاوَى للمجدِ خيرُ طريق = ولمن رامَ منصبًا ويسارا
فغدتْ مصرُ- بعد مجدٍ وعز- = وطنًا ضائعًا، وشعبًا مُضارا
بينما الأرضُ للكبار متاع = لقصور تُطاولُ الأقمارا
*****
أنا لم أسرق القروضَ من البنـ = ـك، ولم أختلسْ جهارًا نهارا
لم أبعْ ذمتي، ولا خنتُ يومًـا = أو لبستُ الرياءَ ثوبًا مُعـارا
أنا لم أقتحمْ بيوتًا مع الفجـ = ـر، وأُفزع أطفالَها والعذارى
لا وما زوَّرتُ انتخابًا، ولا كنـ = ــــتُ دعيًّا أسايرُ الأشرارا
إنما عشتُ شامخًا بيقيني = رافعَ الرأس عزةً وفخارا
أنا ما بعتُ أمتي برخيصٍ = أو بِغالٍ، ولم أُخرِّبْ ديارا
ما اتخذتُ الإرهابَ دينًا ونهْجًا = لا، ولا حتى فكرةً وحوارا
فلماذا أصيرُ رهن اعتقالٍ = وأعاني القيودَ والأسوارا
*****
أما المهاترات فتعني لغةً: الكذب والتزوير والخطأ والحمق والجهل، جاء في القاموس المحيط: الهتر مَزْق العرض والكذب والآمر العجب، والسقط من الكلام، والخطأ فيه، والمستهتر هو الذي كثرت أباطيله، والتهاتر الشهادات التي يكذب بعضها بعضًا. إلخ.
فمصر- للحق- تعيش عصر الظلم والسجون والاضطهاد وموت القانون، وأشد أنواع المهاترات هي بقاء النظام القائم مدة تقترب من الثلاثين عامًا، حتى أصبح مــن الصعب- بل من المستحيل- أن نطلق على هذا النظام "اصطلاحًا قانونيًّا"، فلا يصلح أن نصفه بأنـه نظام ملكي، ومن الصعب- بل من المستحيل- أن نصفه بأنه نظام جمهوري.
واقترح بعضهم أن نُطلق عليه اسم (النظام الجمهوملكي) أو (النظام الملكهوري)، وعلى أية حال تعد مصر رائدةً في هذا المجال، وما زالت الريادة تسير في طريقها.
وفي كلماتٍ نستطيع أن نقول إن مصر في العصر المباركي وصل الفساد فيها بكل أنواعه ودروبه إلى درجةٍ لم يصل إليها نظام أو وطن في أي مكان من العالم.. تخلف دائم مطرد في كل شيء.. الاقتصاد.. التعليم.. مستوى المعيشة.. الخدمات بكل أنواعها، وأصبحت الرشوة هي وسيلة التعامل، والغلاء يطحن الشعب طحنًا وأصبح الكبار يمتطون ظهور الشعب المصري، ودينهم هو الهبر والهبش دون وازعٍ من ضمير، وترتب على ذلك أن فرِّغ شعبنا من الداخل، وفقد شعوره بالانتماء، وكثيرًا ما تسمع كلمات مثل "وأنا مالي يا عم"، "يا عم البلد بلدهم"، "امسك لسانك دا الحيطان لها ودان"، وسقطت كثيرًا من القيم، وترتب على ذلك ظهور أنواع جديدة من الجرائم: مثل السرقة العلنية، وبيع الأولاد، وخطف النساء والبنات من الشوارع، ولجأ كثير من المصريين أمام الغلاء الفاحش إلى بيع أجزاء من أكبادهم، أو بيع كلية من الكليتين، وكل ذلك لأن الحاكم يهمه قبل كل شيء المحافظة على عرشه، وعلى شاكلته رجاله وأعوانه ووزراؤه، ففي مصر مليون ونصف من رجال الأمن المركزي، وهو رقم يزيد على عدد جيوش البلاد العربية كلها- بما فيهم مصر- ومع ذلك فالأمن مفقود.. مفقود.
واتبع النظام المباركي للوصول إلى الحكم والحفاظ عليه فلسفة التزوير المخزي في كل الانتخابات، وهذا يحتاج إلى مقالات ومقالات لا يتسع لها مجالنا الآن، إلا أن نظامنا كان رائدًا فذًّا في هذا المسلك المخزي الشائن، ولا تنتظر من الشعب ولاء، وقد فقد القدوة الحسنة في القيادات والرءوس الكبيرة. وصدق الشاعر إذ يقول:
إذا كان رب الدار بالدف ضاربًا فشيمة أهل الدار كلهم الرقصُ
وصدق شاعر آخر إذ يقول:
لا أذود الطير عن شجر قد بلوت المر من ثمره
وهناك نوعٌ من التخلف والخلل الخطير لن أتعرض له خوفًا من إلصاق تهمة أنا منها بريء، وأترك كاتبًا في صحيفة قومية.. تعد أكبر الصحف كلها وهي صحيفة (الأهرام) يُعبِّر عن هذا الخلل المذهل الخطير، فقد كتب الصحفي نبيل عمر في (الأهرام) ما يأتي بالحرف الواحد: "ما قيمة العدالة إذا كانت أحكام القانون لا تنفذ؟!.. بالطبع أي حكم لا ينفذ هو معاول هدم في بنيان أي دولة, سوس ينخر فيها على الملأ، والعدالة لها ثلاثة أركان: استقلال القضاء وكفاءته وفاعليته, ولا تصح أي عدالة إذا نقص ركن من أركانها, فلا يوجد ما يُسمى بالعدالة الناقصة, فالمسألة واضحة غير قابلة للنقاش: عدالة أو عدم عدالة؟! فالعدالة أنبل وأجل وأهم من أن ترقص على السلالم, لا هي صعدت إلى فضاء الحق والخير والجمال, ولا هي هبطت إلى قاع الأرض ودُفنت, ليبحث المرء عن وسيلة جديدة تعينه على الحق والخير والجمال، وأحكام القضاء التي لا تنفذ أي ما يشوب العدالة من نقصٍّ في الفاعلية أمر جلل". (الأهرام 17/2/2009م).
وانطلق الكاتب في مقاله يفصل بعض الحالات التي لا ينفذ فيها القانون، وهي حقيقة يعرفها كل مواطن في مصر.
وكتب الأستاذ نبيل عمر مقالاً آخر جاء فيه ما هو أنكى وأمر.. كتب بالحرف الواحد: "دخل كاتب مرموق إلى مجلس خاص في مكتب محام شهير كان ضابطًا قبل أن يتفرغ للمهنة, فهاله نوعية الحضور إلى حد الصدمة, فقد كان الحضور خليطًا من شخصيات كبيرة في مجالات متعددة عامة وخاصة, لكن الكاتب استوقفه كثيرًا أن يجد من بين الجالسين إلى مائدة الطعام العامرة بعضًا من رجال العدالة في مناصب رفيعة, فأصابته الدهشة بالصمت القاتل, فلم ينطق ببنت شفة إلا إذا سُئل عن رأيه بإلحاح.
ودار في نفسه سؤال خبيث له وسوسة الشيطان: ما الذي يربط بعض مَن ينتسبون رسميًّا إلى العدالة بمحامٍ قد تشاء الظروف والمصادفات أن يتقابلا وجهًا لوجهٍ في قاعة محكمة؟!
وراح يستمع ويتابع ويدقق حتى وقعت المفاجأة, وعلم أن البعض يعمل لدى المحامي الشهير من الباطن, المحامي يقابل زبائنه الأثرياء ويقبل قضاياهم, ثم يُسلِّم الملف إلى صاحب النصيب, يقرأ ويبحث ويدرس ويكتب المذكرات والمرافعات ويسلمها إلى المحامي, الذي يُذيلها باسمه في قاعات المحاكم, وينال أحكامًا تزيد من شهرته وسمعته وأتعابه!". (الأهرام 24/2/2009م).
ومع ذلك نجد مَن يتبجح ويعلي صوته بالمهاترات والأكاذيب والأباطيل فيصرِّح أن مصر تتقدم دائمًا في شتى المجالات بوصفها الدولة القائدة في الشرق العربي.
وأنا أقول- بل كل الشعب يقول- بلسان الحال ولسان المقال: نعم إن مصر تتقدم حقًّا- بسرعة الصاروخ- ولكن إلى الخلف، وهي كذلك تعلو. وتعلو- بسرعة الضوء- ولكن إلى أسفل. ورحم الله المتنبي إذ قال:
وكم ذا بمصر من المضحكات ولـكنـه ضحــك كالبكـا
0 التعليقات:
إرسال تعليق