كوكبنا البائس مقبل على تغيرات مناخية قاسية، بسبب ظاهرة الانحباس الحراري، وعلى العالم أجمع التحرك واتخاذ إجراءات جادة وحاسمة من أجل وقف تداعيات هذه الظاهرة، وإلا فسوف تكون مصائر شعوب ومناطق كثيرة في مختلف أنحاء الأرض عرضة لواقع أليم وسيناريوهات مستقبلية كارثية، لا يعلم إلا الله وحده مبدأها ومنتهاها.
هذا هو ملخص الموقف الراهن، المجتمع من أجله حاليا زعماء العالم وعلماء البيئة والمناخ في قمة كوبنهاغن للتغير المناخي، بغية الوصول إلى اتفاق دولي جديد وملزم، بديلا عن برتوكول كيوتو، الذي سينتهي العمل به وبآلياته قريبا، يستطيع النأي بمستقبل الأرض عن تلك السيناريوهات القاتمة.
لكن التوصل إلى اتفاق ملزم من هذا النوع رغم جسامة الخطر، لا يعد أمرا سهلا على الإطلاق، إذ ينبغي على هذه الوفود التغلب أولا على تحديات كثيرة وشائكة قبل تحقيق هذا الغرض، كما أن عليهم خوض منعطفات صعبة من أجل حل المشكلات القائمة حاليا بين الأطراف الدولية المعنية، وما أكثرها.
تحديات القمة وفرص التسوية
من أصعب التحديات الواجب على قمة كوبنهاغن اجتيازها، حل الخلاف القائم حاليا ومنذ فترة بين الدول الصناعية الكبرى والدول النامية من جهة والاقتصاديات الناشئة من جهة أخرى بخصوص نسب خفض الانبعاثات الغازية المستحقة على كل طرف، وبخصوص التزامات الدول الغنية -التي تتحمل اللوم الأكبر بالنسبة لتغير المناخ، باعتبارها الأكثر تلويثا لكوكب الأرض- تجاه الدول النامية والفقيرة، التي ليس لها أي يد أو ذنب في هذه المسألة.
والإشكالية هنا تنبع من مطالبة الدول الغنية للدول النامية بالمشاركة في جهود خفض الانبعاثات الغازية، ومحاولة إلزامها بنسب محددة وإجراءات مقيدة، وهو ما سيفرض بطبيعة الحال قيودا وأعباء ضخمة على ميزانيتها المحدودة وخطط التنمية فيها.
وفي المقابل تطالب الدول النامية الدول الصناعية الكبرى -المسؤولة عن حوالي 75% من الانبعاثات العالمية المسببة للتغير المناخي- بتحمل مسؤولياتها في إصلاح ما أفسدته مداخن صناعتها ومنشآتها الاقتصادية على مدى عشرات السنين الماضية، ومطالبتها كذلك بتقديم تعويضات مناسبة للأمم الفقيرة بما يمكن معه مساعدتها في إصلاح أوضاع البيئة والتكيف مع أضرار التغير المناخي، ومع السبل والتقنيات الحديثة المطلوب إدخالها لتحقيق نسب الخفض المطلوبة.
"
لب المشكلة في قمة كوبنهاغن لا يكمن في عدم الاتفاق على مبدأ التعويض والمساعدة، بقدر ما يكمن في كيفية تدبير الدول المتقدمة للاعتمادات المالية اللازمة، خصوصا في ظل تنامي الأزمة المالية العالمية وضخامة فاتورة مواجهة الانحباس الحراري
"
ولب المشكلة هنا لا يكمن في عدم الاتفاق على مبدأ التعويض والمساعدة، بقدر ما يكمن في كيفية تدبير الدول المتقدمة للاعتمادات المالية اللازمة، خصوصا في ظل تنامي الأزمة المالية العالمية وضخامة فاتورة مواجهة الانحباس الحراري، وخصوصا إذا علمنا أن تسديد استحقاقات هذه الفاتورة يتطلب -بحسب مفوضية الاتحاد الأوروبي- ما لا يقل عن 150 مليار دولار سنويا، وهو رقم ضخم للغاية، يصعب بالطبع على أي طرف تدبيره.
هناك أيضا خلافات مماثلة بين القوى الناشئة وعلى الأخص الصين والهند والبرازيل وبين دول الاتحاد الأوروبي واليابان وأستراليا وأميركا، حيث ترى الأخيرة أن هذه الاقتصاديات ليست أقل منها تلويثا للبيئة ونفثا للغازات الضارة، وبالتالي فإنه يجب عليها تقديم تنازلات محددة والتعهد بالحد من هذه الانبعاثات بدرجة مؤثرة.
الدول العربية -التي لا تتعدى نسبة انبعاثاتها الغازية 5% من جملة الانبعاثات العالمية- دخلت أيضا على الخط في هذا الخلاف، حيث رفضت هي الأخرى تحميلها أي جزء من فاتورة الانحباس الحراري ودعت الدول الغنية إلى تقديم العون اللازم للدول العربية المتضررة، مطالبة في الوقت نفسه بضرورة مساعدة الدول المصدرة للنفط على التغلب على أي تداعيات محتملة نتيجة الحد من استهلاك الوقود الحفري. كما رفضت اقتراحا يابانيا بتحديد الالتزامات الواجبة على كل دولة على أساس معدل دخل الفرد أو معدل الانبعاث للفرد، لأن ذلك غير عادل ولا واقعي من وجهة نظرها.
هناك خلافات أيضا بشأن نسب خفض الانبعاثات الغازية المطلوب تحقيقها وما إذا كانت 50% أم 80% مقارنة بالمستويات التي كانت عليها قبل عام 1990، أم غير ذلك، وكذلك بشأن المدى الزمني المطلوب استهدافه، وما إذا كان من الأفضل الاتفاق على مدى متوسط، بداية من الآن وحتى عام 2020، أم مدى طويل حتى عام 2050، لتحقيق هذا الخفض.
الدول الصناعية المتقدمة ذاتها يواجهها كذلك أكثر من تحدّ، ومن أهمها المعارضة الداخلية المتوقعة إزاء التشريعات المضادة للانبعاثات الكربونية والغازية، والمفترض تمريرها والتصديق عليها لاحقا من قبل المجالس التشريعية المعنية بهذه الدول، وهذا بسبب التخوف من تأثير هذه التشريعات والإعانات والمخصصات المادية المطلوب تدبيرها على معدلات النمو الاقتصادي وخطط التنمية.
لذا وفي ظل وجود كل هذه الإشكاليات ورغبة كل طرف في الخروج من المفاوضات بأكثر مكاسب ممكنة أو بأقل فاتورة حساب، فإنه ليس من المتوقع لقمة كوبنهاغن تحقيق جميع الآمال والطموحات المعقودة عليها، فأفضل ما يمكن إنجازه خلالها، بحسب رأي عدد كبير من القادة والخبراء، هو التوصل إلى اتفاق جزئي أو مرحلي، يؤهل لدفع بقية الجهود وربما لتحقيق اتفاق أممي شامل لاحقا.
غير أنه سيحسب لقمة المناخ بكوبنهاغن أيضا على أي الحال، تحقيقها لإجماع عالمي دولي وشعبي غير مسبوق حول قضية التغير المناخي، واجتيازها لكثير من إشكاليات برتوكول كيوتو، وأهمها عدم توقيع الولايات المتحدة على هذا البرتوكول، إذ تعهد أوباما ورؤساء عدد كبير من الدول المتقدمة بالمشاركة في القمة وبالعمل على بذل كل الجهد من أجل الوصول إلى نسب خفض مرضية وتسوية فاعلة.
حقيقة الفرصة الأخيرة وآليات العمل الواجبة
بعيدا عن الإشكاليات والتحديات الدائرة، فإن أكثر ما يلفت النظر بشأن قمة التغير المناخي بكوبنهاغن، أن هذه القمة تحديدا خلافا لبقية الاجتماعات الأممية المماثلة، قد حظيت منذ فترة طويلة بزخم إعلامي وسياسي هائل وبدعاية مكثفة وغير مسبوقة، لم تخل من إشارات تنبيه وتحذيرات متكررة، مفادها أن قمة كوبنهاغن تعد آخر فرصة لإنقاذ كوكبنا من مخاطر التغير المناخي.
ورغم أن الهدف من هذا واضح، ويتلخص في حشد كل الطاقات واستنفار كل الهمم، من أجل إنجاح جهود المفاوضات والخروج بنتائج ملموسة، وهذا ما قد يعد مقبولا ومبررا في مثل هذه الحالات، فإن توصيف القمة بالفرصة الأخيرة، ليس مناسبا على الإطلاق وينطوي -في تقديرنا- على قدر كبير من المبالغة.
ذلك أنه لا يمكن أن نعول على التشريعات والقوانين والاتفاقيات وحدها مهما كانت ملزمة في علاج جميع مشاكل البيئة المستفحلة، بخاصة إذا كانت تتعلق بمشكلة متشعبة مثل التغير المناخي، وبخاصة إذا لم يتبعها التزام سياسي جدي وضمانات قوية بسرعة تطبيقها وتفعيل مبادئها.
"
لا يمكن أن نعول على التشريعات والقوانين والاتفاقيات وحدها مهما كانت ملزمة في علاج جميع مشاكل البيئة المستفحلة، إذا لم يتبعها التزام سياسي جدي وضمانات قوية بسرعة تطبيقها وتفعيل مبادئها
"
يضاف إلى هذا أن التوصل إلى اتفاق أممي ملزم، مع التسليم بأنه خطوة ناجزة وبالغة التأثير على المديين القريب والبعيد، لا يمثل سوى جبهة عمل واحدة، ضمن آليات ووسائل أخرى كثيرة، يمكن طرقها واتباعها من أجل الحد من ظاهرة الانحباس الحراري.
من أهم تلك الجبهات، محاولة إيجاد مصادر بديلة ونظيفة للطاقة تقلل من الاعتماد على النفط والوقود الحفري بصفة عامة، باعتباره المسؤول الأول عن إطلاق الانبعاثات الغازية الضارة والملوثات الحالية.
هناك محاولات عالمية حثيثة تجرى حاليا كما هو معروف من أجل البحث عن بدائل جديدة للطاقة، ومن ذلك الوقود الحيوي ووقود الهيدروجين، كما أن هناك جهودا أخرى جادة وواضحة للتوسع في استخدام مصادر الطاقة النظيفة، وبخاصة الطاقة النووية وطاقة الرياح والطاقة الشمسية، والكهرومائية.
وبديهي هنا أن نجاح هذه الجهود والتوسع في استخدام أحد هذه المصادر البديلة، سيؤدي بطبيعة الحال إلى الاستغناء ولو تدريجيا عن استخدام الوقود الحفري، والغازات الضارة المنبعثة منه.
مفهوم "الاقتصاد الأخضر" من المبادئ الجديدة الآخذة في الانتشار التي يمكن أن يكون لها أيضا آثار واضحة في التخفيف من حدة التلوث الناتجة، إذ يقوم على اعتبار المعايير البيئية السليمة واستخدام مصادر الطاقة النظيفة وأساليب الزراعة العضوية والتنمية المستدامة، في كافة الأنشطة الصناعية والزراعية والتجارية القائمة. التوسع في عملية تدوير النفايات وزيادة كفاءة استخدام الطاقة والاقتصاد في استخدام المياه وبقية الموارد الطبيعية المتاحة يمكن أن يكون فاعلا ومؤثرا كذلك في هذا الاتجاه.
على الجانب الآخر هناك جهود علمية وبحثية حثيثة تجرى حاليا من أجل هندسة المناخ والتلطيف من حدة التلوث الحادثة، وهذا عن طريق استمطار السحب، ومحاولة رد الإشعاع الشمسي للفضاء ثانية، أو تخزين الكربون المتصاعد في أماكن آمنة تحت قاع البحر، بدلا من نفثه في الجو.
وبالمثل هناك جهود مماثلة لتسميد المناطق البحرية الفقيرة والإكثار من الهائمات النباتية والطحالب الدقيقة فيها بمقادير محسوبة، بما يزيد من قدرة هذه الهائمات والبحار والمحيطات بصفة عامة على امتصاص كميات إضافية من الكربون المتصاعد.
وهكذا يمكن أن يؤدي نجاح أي من هذه الأفكار والتوسع فيها، إلى إحداث ما يشبه الثورة في مجال المحافظة على البيئة وإدارة مواردها بطريقة سليمة، كما يمكن أن يغنينا هذا عن كثير من الوعود السياسية الزائفة، وعن مئات التشريعات الملزمة.
سلوك الفرد ومسؤولياته الأساسية
بغض النظر عن مآلات ونتائج قمة كوبنهاغن، وبغض النظر عن مدى النجاحات المتحققة خلالها، لا يفترض أبدا التشاؤم والنظر إلى هذه الفعالية على أنها الفرصة الأخيرة لإنقاذ كوكب الأرض.
فالعمل البيئي والجهود الدائرة حاليا من أجل وقف ظاهرة الانحباس الحراري، تتطلب صبرا دؤوبا وجهودا متواصلة ومضنية باستمرار على كل الجبهات، كما تتطلب النظر إلى هذه القمة والاجتماعات الأممية المماثلة، السابقة واللاحقة لها، على أنها ليست أكثر من حلقة عمل ضمن حلقات أخرى متشابكة، يصح وصلها وربطها ببعضها، حتى يستكمل عقدها وتتحقق وحدة الهدف.
"
العمل البيئي والجهود الدائرة حاليا من أجل وقف ظاهرة الانحباس الحراري، تتطلب صبرا دؤوبا وجهودا متواصلة ومضنية باستمرار على كل الجبهات، كما تتطلب النظر إلى هذه القمة على أنها ليست أكثر من حلقة عمل ضمن حلقات أخرى متشابكة
"
ومن ضمن هذه الحلقات كما ذكر آنفا، التوسع في استخدام مصادر الطاقة النظيفة، واتخاذ آليات ووسائل اقتصادية جديد ومستدامة، والعمل على تحسين كفاءة استخدام الطاقة، وغير ذلك.
كما يجب الوعي بأن أهم حلقات هذا العقد وأهم محاوره، هو الفرد ذاته، وسلوكه اليومي وتصرفاته تجاه بيئته المحيطة ومقدرات البيئة المتاحة، إذ لا جدال في أن أكبر مشاكل كوكبنا البائس تنبع أساسا وفي الأصل من تنامي أنماط التصرفات اليومية المسيئة غير المراعية لقدرات النظم البيئية وعناصر البيئة المحيطة، وكذلك من الإفراط في استخدام الموارد المتاحة، والإساءة إليها بأكثر من طريقة.
لذا يجب التركيز على ترشيد سلوك الفرد ومنهج تعامله مع هذه الموارد، بما يساعد على الاطلاع بمسؤولياته تجاه الأمانة التي حملها الله إياها، وتجاه حق الأجيال القادمة في التمتع بجزء من هذه المقدرات وببيئة نظيفة. ولنا في أحاديث رسولنا الكريم (صلى الله عليه وسلم) أسوة حسنة، إذ يحضنا على الرفق بالحيوان وكل الموجودات، وعلى عدم الإسراف في استخدام الماء، حتى لو كان للوضوء، وحتى لو كان بنهر جار. وهذا هو أيضا شأن بقية الأديان الأخرى.
لا شك أن اتباعنا هذا وأخذه مقياسا للتطبيق في بقية تصرفاتنا وتعاملاتنا اليومية مع المقدرات والموارد البيئية المتاحة، لكفيل بتوفير كثير من المتاعب والمشاكل البيئية والاقتصادية المتداعية علينا، وكفيل أيضا بتجنيب العالم الحديث عن سيناريوهات كارثية قادمة، وعن مستقبل غامض، لا يعلم إلا الله وحده غيبه أو حقيقته.
هذا هو ملخص الموقف الراهن، المجتمع من أجله حاليا زعماء العالم وعلماء البيئة والمناخ في قمة كوبنهاغن للتغير المناخي، بغية الوصول إلى اتفاق دولي جديد وملزم، بديلا عن برتوكول كيوتو، الذي سينتهي العمل به وبآلياته قريبا، يستطيع النأي بمستقبل الأرض عن تلك السيناريوهات القاتمة.
لكن التوصل إلى اتفاق ملزم من هذا النوع رغم جسامة الخطر، لا يعد أمرا سهلا على الإطلاق، إذ ينبغي على هذه الوفود التغلب أولا على تحديات كثيرة وشائكة قبل تحقيق هذا الغرض، كما أن عليهم خوض منعطفات صعبة من أجل حل المشكلات القائمة حاليا بين الأطراف الدولية المعنية، وما أكثرها.
تحديات القمة وفرص التسوية
من أصعب التحديات الواجب على قمة كوبنهاغن اجتيازها، حل الخلاف القائم حاليا ومنذ فترة بين الدول الصناعية الكبرى والدول النامية من جهة والاقتصاديات الناشئة من جهة أخرى بخصوص نسب خفض الانبعاثات الغازية المستحقة على كل طرف، وبخصوص التزامات الدول الغنية -التي تتحمل اللوم الأكبر بالنسبة لتغير المناخ، باعتبارها الأكثر تلويثا لكوكب الأرض- تجاه الدول النامية والفقيرة، التي ليس لها أي يد أو ذنب في هذه المسألة.
والإشكالية هنا تنبع من مطالبة الدول الغنية للدول النامية بالمشاركة في جهود خفض الانبعاثات الغازية، ومحاولة إلزامها بنسب محددة وإجراءات مقيدة، وهو ما سيفرض بطبيعة الحال قيودا وأعباء ضخمة على ميزانيتها المحدودة وخطط التنمية فيها.
وفي المقابل تطالب الدول النامية الدول الصناعية الكبرى -المسؤولة عن حوالي 75% من الانبعاثات العالمية المسببة للتغير المناخي- بتحمل مسؤولياتها في إصلاح ما أفسدته مداخن صناعتها ومنشآتها الاقتصادية على مدى عشرات السنين الماضية، ومطالبتها كذلك بتقديم تعويضات مناسبة للأمم الفقيرة بما يمكن معه مساعدتها في إصلاح أوضاع البيئة والتكيف مع أضرار التغير المناخي، ومع السبل والتقنيات الحديثة المطلوب إدخالها لتحقيق نسب الخفض المطلوبة.
"
لب المشكلة في قمة كوبنهاغن لا يكمن في عدم الاتفاق على مبدأ التعويض والمساعدة، بقدر ما يكمن في كيفية تدبير الدول المتقدمة للاعتمادات المالية اللازمة، خصوصا في ظل تنامي الأزمة المالية العالمية وضخامة فاتورة مواجهة الانحباس الحراري
"
ولب المشكلة هنا لا يكمن في عدم الاتفاق على مبدأ التعويض والمساعدة، بقدر ما يكمن في كيفية تدبير الدول المتقدمة للاعتمادات المالية اللازمة، خصوصا في ظل تنامي الأزمة المالية العالمية وضخامة فاتورة مواجهة الانحباس الحراري، وخصوصا إذا علمنا أن تسديد استحقاقات هذه الفاتورة يتطلب -بحسب مفوضية الاتحاد الأوروبي- ما لا يقل عن 150 مليار دولار سنويا، وهو رقم ضخم للغاية، يصعب بالطبع على أي طرف تدبيره.
هناك أيضا خلافات مماثلة بين القوى الناشئة وعلى الأخص الصين والهند والبرازيل وبين دول الاتحاد الأوروبي واليابان وأستراليا وأميركا، حيث ترى الأخيرة أن هذه الاقتصاديات ليست أقل منها تلويثا للبيئة ونفثا للغازات الضارة، وبالتالي فإنه يجب عليها تقديم تنازلات محددة والتعهد بالحد من هذه الانبعاثات بدرجة مؤثرة.
الدول العربية -التي لا تتعدى نسبة انبعاثاتها الغازية 5% من جملة الانبعاثات العالمية- دخلت أيضا على الخط في هذا الخلاف، حيث رفضت هي الأخرى تحميلها أي جزء من فاتورة الانحباس الحراري ودعت الدول الغنية إلى تقديم العون اللازم للدول العربية المتضررة، مطالبة في الوقت نفسه بضرورة مساعدة الدول المصدرة للنفط على التغلب على أي تداعيات محتملة نتيجة الحد من استهلاك الوقود الحفري. كما رفضت اقتراحا يابانيا بتحديد الالتزامات الواجبة على كل دولة على أساس معدل دخل الفرد أو معدل الانبعاث للفرد، لأن ذلك غير عادل ولا واقعي من وجهة نظرها.
هناك خلافات أيضا بشأن نسب خفض الانبعاثات الغازية المطلوب تحقيقها وما إذا كانت 50% أم 80% مقارنة بالمستويات التي كانت عليها قبل عام 1990، أم غير ذلك، وكذلك بشأن المدى الزمني المطلوب استهدافه، وما إذا كان من الأفضل الاتفاق على مدى متوسط، بداية من الآن وحتى عام 2020، أم مدى طويل حتى عام 2050، لتحقيق هذا الخفض.
الدول الصناعية المتقدمة ذاتها يواجهها كذلك أكثر من تحدّ، ومن أهمها المعارضة الداخلية المتوقعة إزاء التشريعات المضادة للانبعاثات الكربونية والغازية، والمفترض تمريرها والتصديق عليها لاحقا من قبل المجالس التشريعية المعنية بهذه الدول، وهذا بسبب التخوف من تأثير هذه التشريعات والإعانات والمخصصات المادية المطلوب تدبيرها على معدلات النمو الاقتصادي وخطط التنمية.
لذا وفي ظل وجود كل هذه الإشكاليات ورغبة كل طرف في الخروج من المفاوضات بأكثر مكاسب ممكنة أو بأقل فاتورة حساب، فإنه ليس من المتوقع لقمة كوبنهاغن تحقيق جميع الآمال والطموحات المعقودة عليها، فأفضل ما يمكن إنجازه خلالها، بحسب رأي عدد كبير من القادة والخبراء، هو التوصل إلى اتفاق جزئي أو مرحلي، يؤهل لدفع بقية الجهود وربما لتحقيق اتفاق أممي شامل لاحقا.
غير أنه سيحسب لقمة المناخ بكوبنهاغن أيضا على أي الحال، تحقيقها لإجماع عالمي دولي وشعبي غير مسبوق حول قضية التغير المناخي، واجتيازها لكثير من إشكاليات برتوكول كيوتو، وأهمها عدم توقيع الولايات المتحدة على هذا البرتوكول، إذ تعهد أوباما ورؤساء عدد كبير من الدول المتقدمة بالمشاركة في القمة وبالعمل على بذل كل الجهد من أجل الوصول إلى نسب خفض مرضية وتسوية فاعلة.
حقيقة الفرصة الأخيرة وآليات العمل الواجبة
بعيدا عن الإشكاليات والتحديات الدائرة، فإن أكثر ما يلفت النظر بشأن قمة التغير المناخي بكوبنهاغن، أن هذه القمة تحديدا خلافا لبقية الاجتماعات الأممية المماثلة، قد حظيت منذ فترة طويلة بزخم إعلامي وسياسي هائل وبدعاية مكثفة وغير مسبوقة، لم تخل من إشارات تنبيه وتحذيرات متكررة، مفادها أن قمة كوبنهاغن تعد آخر فرصة لإنقاذ كوكبنا من مخاطر التغير المناخي.
ورغم أن الهدف من هذا واضح، ويتلخص في حشد كل الطاقات واستنفار كل الهمم، من أجل إنجاح جهود المفاوضات والخروج بنتائج ملموسة، وهذا ما قد يعد مقبولا ومبررا في مثل هذه الحالات، فإن توصيف القمة بالفرصة الأخيرة، ليس مناسبا على الإطلاق وينطوي -في تقديرنا- على قدر كبير من المبالغة.
ذلك أنه لا يمكن أن نعول على التشريعات والقوانين والاتفاقيات وحدها مهما كانت ملزمة في علاج جميع مشاكل البيئة المستفحلة، بخاصة إذا كانت تتعلق بمشكلة متشعبة مثل التغير المناخي، وبخاصة إذا لم يتبعها التزام سياسي جدي وضمانات قوية بسرعة تطبيقها وتفعيل مبادئها.
"
لا يمكن أن نعول على التشريعات والقوانين والاتفاقيات وحدها مهما كانت ملزمة في علاج جميع مشاكل البيئة المستفحلة، إذا لم يتبعها التزام سياسي جدي وضمانات قوية بسرعة تطبيقها وتفعيل مبادئها
"
يضاف إلى هذا أن التوصل إلى اتفاق أممي ملزم، مع التسليم بأنه خطوة ناجزة وبالغة التأثير على المديين القريب والبعيد، لا يمثل سوى جبهة عمل واحدة، ضمن آليات ووسائل أخرى كثيرة، يمكن طرقها واتباعها من أجل الحد من ظاهرة الانحباس الحراري.
من أهم تلك الجبهات، محاولة إيجاد مصادر بديلة ونظيفة للطاقة تقلل من الاعتماد على النفط والوقود الحفري بصفة عامة، باعتباره المسؤول الأول عن إطلاق الانبعاثات الغازية الضارة والملوثات الحالية.
هناك محاولات عالمية حثيثة تجرى حاليا كما هو معروف من أجل البحث عن بدائل جديدة للطاقة، ومن ذلك الوقود الحيوي ووقود الهيدروجين، كما أن هناك جهودا أخرى جادة وواضحة للتوسع في استخدام مصادر الطاقة النظيفة، وبخاصة الطاقة النووية وطاقة الرياح والطاقة الشمسية، والكهرومائية.
وبديهي هنا أن نجاح هذه الجهود والتوسع في استخدام أحد هذه المصادر البديلة، سيؤدي بطبيعة الحال إلى الاستغناء ولو تدريجيا عن استخدام الوقود الحفري، والغازات الضارة المنبعثة منه.
مفهوم "الاقتصاد الأخضر" من المبادئ الجديدة الآخذة في الانتشار التي يمكن أن يكون لها أيضا آثار واضحة في التخفيف من حدة التلوث الناتجة، إذ يقوم على اعتبار المعايير البيئية السليمة واستخدام مصادر الطاقة النظيفة وأساليب الزراعة العضوية والتنمية المستدامة، في كافة الأنشطة الصناعية والزراعية والتجارية القائمة. التوسع في عملية تدوير النفايات وزيادة كفاءة استخدام الطاقة والاقتصاد في استخدام المياه وبقية الموارد الطبيعية المتاحة يمكن أن يكون فاعلا ومؤثرا كذلك في هذا الاتجاه.
على الجانب الآخر هناك جهود علمية وبحثية حثيثة تجرى حاليا من أجل هندسة المناخ والتلطيف من حدة التلوث الحادثة، وهذا عن طريق استمطار السحب، ومحاولة رد الإشعاع الشمسي للفضاء ثانية، أو تخزين الكربون المتصاعد في أماكن آمنة تحت قاع البحر، بدلا من نفثه في الجو.
وبالمثل هناك جهود مماثلة لتسميد المناطق البحرية الفقيرة والإكثار من الهائمات النباتية والطحالب الدقيقة فيها بمقادير محسوبة، بما يزيد من قدرة هذه الهائمات والبحار والمحيطات بصفة عامة على امتصاص كميات إضافية من الكربون المتصاعد.
وهكذا يمكن أن يؤدي نجاح أي من هذه الأفكار والتوسع فيها، إلى إحداث ما يشبه الثورة في مجال المحافظة على البيئة وإدارة مواردها بطريقة سليمة، كما يمكن أن يغنينا هذا عن كثير من الوعود السياسية الزائفة، وعن مئات التشريعات الملزمة.
سلوك الفرد ومسؤولياته الأساسية
بغض النظر عن مآلات ونتائج قمة كوبنهاغن، وبغض النظر عن مدى النجاحات المتحققة خلالها، لا يفترض أبدا التشاؤم والنظر إلى هذه الفعالية على أنها الفرصة الأخيرة لإنقاذ كوكب الأرض.
فالعمل البيئي والجهود الدائرة حاليا من أجل وقف ظاهرة الانحباس الحراري، تتطلب صبرا دؤوبا وجهودا متواصلة ومضنية باستمرار على كل الجبهات، كما تتطلب النظر إلى هذه القمة والاجتماعات الأممية المماثلة، السابقة واللاحقة لها، على أنها ليست أكثر من حلقة عمل ضمن حلقات أخرى متشابكة، يصح وصلها وربطها ببعضها، حتى يستكمل عقدها وتتحقق وحدة الهدف.
"
العمل البيئي والجهود الدائرة حاليا من أجل وقف ظاهرة الانحباس الحراري، تتطلب صبرا دؤوبا وجهودا متواصلة ومضنية باستمرار على كل الجبهات، كما تتطلب النظر إلى هذه القمة على أنها ليست أكثر من حلقة عمل ضمن حلقات أخرى متشابكة
"
ومن ضمن هذه الحلقات كما ذكر آنفا، التوسع في استخدام مصادر الطاقة النظيفة، واتخاذ آليات ووسائل اقتصادية جديد ومستدامة، والعمل على تحسين كفاءة استخدام الطاقة، وغير ذلك.
كما يجب الوعي بأن أهم حلقات هذا العقد وأهم محاوره، هو الفرد ذاته، وسلوكه اليومي وتصرفاته تجاه بيئته المحيطة ومقدرات البيئة المتاحة، إذ لا جدال في أن أكبر مشاكل كوكبنا البائس تنبع أساسا وفي الأصل من تنامي أنماط التصرفات اليومية المسيئة غير المراعية لقدرات النظم البيئية وعناصر البيئة المحيطة، وكذلك من الإفراط في استخدام الموارد المتاحة، والإساءة إليها بأكثر من طريقة.
لذا يجب التركيز على ترشيد سلوك الفرد ومنهج تعامله مع هذه الموارد، بما يساعد على الاطلاع بمسؤولياته تجاه الأمانة التي حملها الله إياها، وتجاه حق الأجيال القادمة في التمتع بجزء من هذه المقدرات وببيئة نظيفة. ولنا في أحاديث رسولنا الكريم (صلى الله عليه وسلم) أسوة حسنة، إذ يحضنا على الرفق بالحيوان وكل الموجودات، وعلى عدم الإسراف في استخدام الماء، حتى لو كان للوضوء، وحتى لو كان بنهر جار. وهذا هو أيضا شأن بقية الأديان الأخرى.
لا شك أن اتباعنا هذا وأخذه مقياسا للتطبيق في بقية تصرفاتنا وتعاملاتنا اليومية مع المقدرات والموارد البيئية المتاحة، لكفيل بتوفير كثير من المتاعب والمشاكل البيئية والاقتصادية المتداعية علينا، وكفيل أيضا بتجنيب العالم الحديث عن سيناريوهات كارثية قادمة، وعن مستقبل غامض، لا يعلم إلا الله وحده غيبه أو حقيقته.
0 التعليقات:
إرسال تعليق