همم الشباب


بقلم : د. على الحمادى

تحكي كتب التاريخ أن إياس بن معاوية كان شابًّا لم يتجاوز السادسة عشر، وكان إذا مشي في الطريق يمشي خلفه أربعمائة من العلماء والقادة، فرأى الخليفة ذلك المشهد فغضب وأراد أن يلقِّن إياسًا درسًا في الأدب، فجاء إليه فقال له- مستصغرًا إياه-: "كم سنّك يا بُني؟" فردّ عليه إياس ردًّا عجيبًا مفحمًا قائلاً: "سني يا أمير المؤمنين كسن أسامة بن زيد يوم أن قاد جيشًا فيه أبو بكر وعمر" فتعجَّب الخليفة من ذكاء إياس وفطنته وسرعة بديهته وقال: "تقدَّم بورك فيك".

إن السن لم يكن عائقًا للتأثير وصناعة الحياة في يومٍ من الأيام، فكم من صغار فعلوا ما أبهر الكبار!! وكم من أناس في سن المراهقة، وأقلّ من ذلك، أبدعوا في مجالات شتى بل وقادوا الكبار وتقدَّموا عليهم ونالوا احترامهم وتقديرهم!! والأمثلة على ذلك كثيرة؛ نذكر منها:* أن الله تعالى قد مدح يحيى بن زكريا- عليهما السلام- فقال فيه: ﴿يَا يَحْيَى خُذْ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا﴾ (مريم: 12).

* وقال صبيان ذات مرة ليحيى- عليه السلام-: اذهب بنا نلعب، فقال: ما للعب خُلقنا.

* وحين أراد النبي- صلى الله عليه وسلم- أن يُنَصِّب إمامًا لبعض مَن وفدوا عليه، سألهم عن أكثرهم قرآنًا فإذا هو عمرو بن سلمة الجرمي رضي الله عنه، فنُصِّب إمامًا لهم وهو غلام صغير، وبقيت هذه المسئولية لديه، فكان كما قال رضي الله عنه: "فما شهدت مجمعًا إلا كنتُ إمامهم وأُصلي على جنائزهم إلى يومي هذا" (رواه أحمد).

* وقد ولَّى عمر بن الخطاب رضي الله عنه عتاب بن أسيد أميرًا على مكة وكان عمره حين ولاَّه عمر نيفًا وعشرين سنة.

* ولما قدِمَ وفدٌ ثقيف على عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- ولَّى عليهم عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه وأمره بإمامتهم، وكان أصغر الوفد سنًّا.

* وعن عفان بن مسلم قال: قال لي حماد بن سلمة: ألحَّ علينا المطر سنةً من السنين، وفي جواري امرأة من المُتعبِّدات لها بنات أيتام، فوكف (أي قطّر) السقف عليهم، فسمعتها تقول: "يا رفيق ارفق بي"، فسكن المطر.

يقول حماد: فأخذت صرّة فيها دنانير وقرعتُ بابها، فقالت: اللهم اجعله حماد بن سلمة، قلت: أنا حماد بن سلمة، وأخرجت الدنانير وقلت لها: انتفعي بهذه، فإذا صبيةٌ عليها مدرعة من صوف تستبين خروقها قد خرجت عليّ، وقالت: "ألا تسكت يا حماد.. تعترض بيننا وبين ربنا"، ثم قالت: يا أماه.. قد علمنا أنَّا لما شكونا مولانا أنه سيبعث إلينا بالدنيا ليطردنا عن بابه، ثم ألصقت خذها على التراب، وقالت: أما وعزّتك لا زايلت بابك وإن طردتني، ثم قالت: يا حماد.. ردّ دنانيرك عافاك الله إلى الموضع الذي أخرجتها منه، فإنا رفعنا حوائجنا إلى من يقبل الودائع ولا يبخس العاملين.

* وعندما كان الشيخ عبد القادر الجيلاني شابًّا صغيرًا كان مهندسًا للحياة ومؤثِّرًا فيها، واستمع إلى قصته (التي يرويها هو) مع نفر من قُطَّاع الطُرق وكيف استطاع، وهو غلام صغير، أن يغيِّر حياة هؤلاء العُتاة المجرمين تغييرًا جذريًّا.

يقول الشيخ عبد القادر الجيلاني- رحمه الله-: بنيتُ أمري على الصدق؛ وذلك أني خرجتُ من مكة إلى بغداد أطلب العلم، فأعطتني أمي أربعين دينارًا، وعاهدتْني على الصدق، ولمَّا وصلنا أرض "همدان" خرج علينا عربٌ فأخذوا القافلة، فمرَّ واحدٌ منهم وقال: ما معك؟ قلتُ: أربعين دينارًا، فظنَّ أني أهزأ به، فتركني، فرآني رجل آخر، فقال: ما معك؟ فأخبرتُه، فأخذني إلى أميرهم، فسألني، فأخبرته، فقال: ما حملك على الصدق؟ قلتُ: "عاهدتني أمي على الصدق، فأخاف أن أخون عهدها" فصاح باكيًا، وقال: أنت تخاف أن تخون عهد أمك، وأنا لا أخاف أن أخون عهد الله!! ثم أمر برَدِّ ما أخذوه من القافلة، وقال: أنا تائب لله على يديك، فقال مَن معه: أنت كبيرنا في قطع الطريق، وأنت اليوم كبيرنا في التوبة، فتابوا جميعًا.

* ومحمد بن القاسم الثقفي مَثلٌ آخر لصنَّاع التأثير في هذه الحياة؛ فقد قاد فتح السِّنْد والهند وعمره سبعة عشر عامًا، وعَظُمتْ فتوحه وكثُرت غنائمه حتى قال الحجاج بن يوسف الثقفي: "شفينا غيظنا، وأدركنا ثأرنا، وازددنا ستين ألف ألف درهم، ورأس داهر" (داهر هو ملك السند، وقد قتله محمد بن القاسم).

وفي محمد بن القاسم يقول حمزة الحنفي:
إنَّ المروءة والسماحة والندى لمحمد بن القاسم بن محمد
ساس الجيوش لسبع عشرة حِجة يا قرب ذلك سؤددًا من مولد

* وانظر إلى الكلمات الواعية التي أطلقتها بُنيَّةٌ صغيرةٌ ذكر قصتها الإمام ابن الجوزي في (صفوة الصفوة 4/443) حيث يقول: بلغنا أن أمير بلدة حاتم الأصم اجتاز باب حاتم فاستسقى ماءً، فلما شرب رمى إليهم شيئًا من المال، فوافقه أصحابه، ففرح أهل الدار سِوى بُنية صغيرة فإنها بكت، فقيل لها: ما يُبكيك؟ فقالت: مخلوق نظر إلينا فاستغنينا.. فكيف لو نظر إلينا الخالق سبحانه وتعالى؟!.

* وكم رأينا على شاشات التلفاز من جنود يهود مُدجَّجين بأحدث وأعتى الأسلحة يفرِّون أمام أطفالٍ لا يحملون سِوى حجارة صغيرة، ﴿كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51)﴾ (المدثر)، وما عسى حجارة أن تصنع أمام هذه الأسلحة الفتاكة، ولكن صدق الله- تعالى- إذ يقول في اليهود: ﴿فَأَتَاهُمْ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمْ الرُّعْبَ﴾ (الحشر: من الآية 2).
حجارة القدس نيرانٌ وسجيلُ وفِتيةُ القدسِ أطيار أبابيلُ
وساحةُ المسجد الأقصى تموجُ بهم ومنطقُ القدس آيات وتنزيل

فإذا كان صِغار السن يمكن أن يكون لهم وزن وتأثير في هذه الحياة فكذلك العجزة والذين شاخت أعمارهم يمكن أن يكونوا مؤثرين وفاعلين.

إن الشيْبَ جلةٌ ووقار، ونور للعبد ومَنَار، وما أجمل ما سطَّره القائل إذْ يقول:
تفاريقُ شَيْبٍ في السَّوادِ لَواَمِعُ وما خيرُ ليلٍ ليس فيه نجومُ

وعن عمرو بن عبسة رضي الله عنه قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ شابَ شيبةً في سبيل الله، كانت له نورًا يوم القيامة " (رواه أحمد، والترمذي، والنسائي)، وقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "إن مِنْ إجلال الله: إكرامَ ذي الشيْبَةِ المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه، وإكرام ذي السلطان المُقسِط" (رواه أبو داود).
أهلاً وسهلاً بالمَشيبِ فإنه سِمَةُ العفيفِ وحِليَةُ المُتحرِّجِ
وكأنَّ شَيْبي نَظْمُ دُرٍّ زاهرٍ في تاجِ ذي ملكٍ أغرَّ مُتَوَّجِ

وقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "خيرُ الناسِ مَنْ طال عمره وحسُنَ عملُه، وشرُّ الناس مَن طال عمرُه وساء عمله" (رواه أحمد والترمذي).

فلله درُّ أناسٍ طال عمرهم وعَلَتْ هِمَمُهم وحسن عملهم.
* قال أبو ظبيان: أغْزَى أبو أيوب فمرضَ، فقال: إذا متُّ فاحملوني، فإذا صاففْتُم العدوّ فارموني تحت أقدامكم، أما إني سأحدِّثكم بحديثٍ سمعته من رسول الله- صلى الله عليه وسلم- سمعتُهُ يقول: "مَنْ مات لا يُشرك بالله شيئاً دخل الجنة" (رواه أحمد والطبراني، وإسناده قوي).

هذه حاجة أبي أيوب وهو يجود بروحه، تُعجِز كلَّ تصور لبني الإنسان!! ولقد أنجز يزيد وصية أبي أيوب، وفي قلب القسطنطينية (إسطنبول) ثوى جثمان رجل عظيم جِدّ عظيم.

لقد أراد أن يكون مثواه الأخير حيث يزحف جيش الإسلام وتخفق الأعلام وتصهل الخيول، هناك حيث صلصلة السيوف، وقد كان شيخًا كبيرًا، فرحمه الله رحمةً واسعةً.

* ويوسف بن تاشفين كان يقاتل الفرنجة ويقود الجيوش بنفسه وقد جاوز الثمانين من عمره.

* وابن نصير فتح الأندلس وعمره (74) عامًا؛ وذلك في عهد الوليد بن عبد الملك، وكان فتحًا عظيمًا، حتى إنه لما استدعاه الوليد بن عبد الملك في آخر أيامه (95هـ) وصل موسى دمشق ومعه (120) من الملوك وأولادهم سبايا، وكان موسى بن نصير يقول- وهو شيخ كبير قد شارف الثمانين-: "ما هُزمتْ لي رايةٌ قط، ولا فُضَّ لي جمعٌ ولا نُكب المسلمون معي نكبةً منذ اقتحمتُ الأربعين إلى أن شارفتُ الثمانين".

وبعد أن أوغل موسى بن نصير في فتح الأندلس وجاوز سرقسطة- وكان آنذاك شيخًا مسنًّا- قال: "أما والله لو انقادوا إليَّ لقُدتُهم إلى رومية، ثم يفتحها الله على يديَّ إن شاء الله"، فلله دَرُّك من شيخ لا يعرف للمستحيل معنى.

* وثابت البُناني، بلغ ستًّا وثمانين سنة، قال عنه بكر المزني: "مَن أراد أن ينظر إلى أَعْبَد أهل زمانه فلينظر إلى ثابت البُناني؛ فما أدركنا الذي هو أعبد منه"، وقال عنه أنس بن مالك- رحمه الله-: "إن للخير مفاتيح، وإن ثابتًا من مفاتيح الخير".

* والحاكم النيسابوري ألَّف كتابه القيم: "المستدرك على الصحيحين" إملاءً من ذاكرته بعد أن جاوز التسعين من عمره.

* وعمر المختار دوَّخ المستعمر الإيطالي، وظلَّ يقاومه حتى أقدم الإيطاليون على إعدامه يوم 16/9/1931م وقد جاوز التسعين من عمره.

* والصحابي الجليل أبو طلحة الأنصاري رضي الله عنه الذي شهد العقبة وبدرًا، وغزا مع النبي- صلى الله عليه وسلم- كل الغزوات، وكان له دوره المميَّز في صفوف الجيش حتى قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: "صوت أبي طلحة في الجيش خيرٌ من مائة" (أخرجه أحمد وإسناده صحيح).

كان كثير الصوم وقلَّما يفطر، وكان زاهدًا متعبدًا بالرغم من تقدم سنه- رضي الله عنه- ولم يتخَّلف عن غزوةٍ قط، ولم يتعذَّر بكبر السن فيجلس ويستريح، فعن أنس- رضي الله عنه- أن أبا طلحة قرأ سورة "براءة" فأتى على هذه الآية: ﴿انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً﴾ (التوبة: من الآية 41) فقال: "أرى ربي يستنفرني شابًّا وشيخًا، جهزوني"، فقال له بنوه: قد غزوت مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حتى قُبض، وغزوت مع أبي بكر حتى مات، وغزوت مع عمر، فنحن نغزو عنك، فقال: "جهِّزوني"، فركب البحر فمات، فلم يجدوا له جزيرةً يدفنونه فيها إلا بعد سبعة أيام فلم يتغيَّر.

* وجورج داوسون الذي لم يتعلَّم القراءة والكتابة إلا بعد بلوغه الثامنة والتسعين من العمر، وبعد أربع سنوات من تعلمه (فك الخط) كتب سيرةَ حياته في كتاب بعنوان (الحياة رائعة جدًّا) باع منه (100) ألف نسخة خلال الأسابيع الأولى من صدوره، واحتل قائمة أكثر الكتب مبيعًا لفترة طويلة، كما قام بجولةٍ في كل أرجاء الولايات المتحدة الأمريكية لترويج الكتاب.

وكم نخسر كثيرًا بسبب ذلك القانون الذي يحيل مَن بلغ ستين سنة إلى المعاش، وكأننا نقول له: لقد انتهت صلاحيتك، وآن لك أن تذهب إلى بيتك وتنتظر الموت؛ فلا فائدةَ منك!!.

إن السن ليس حجةً للتقاعس أو التوقُّف عن صناعة الحياة والتأثير في الواقع، وإنما يستطيع الإنسان لو قرر واجتهد واستعان قبل ذلك بالله تعالى- أن يفعل شيئًا كثيرًا مهما كان سنه، بشرط أن تكون الهمة عاليةً والنفس طموحةً.

0 التعليقات:

 

اخوان دار العلوم Copyright © 2009 WoodMag is Designed by Ipietoon for Free Blogger Template

') }else{document.write('') } }