بقلم : كمال جابر
لقد خفتَ بريق الروح الوثابة في وجدان الأمة رويدا رويدا مع مرور الوقت فخسرت صورتها ومكانتها بين الأمم .. فكلما دار زمان أتت عجلته على شيء منها فتآكلت ، حتى بات المتربصون بها يدركون قرب أفول نجمها الساطع ، فأطلقوا على آخر الرموز التي تشبعت بتلك الروح وسمت بها وسادت في ربوع العالمين لا سيما الغربي منه اسم (الرجل المريض )، وبقي هذا المريض قائما شامخا قرنين من الزمان آخرين بعد قرون العز والمجد والسؤدد ، وما كان لشيء أن يبث أسباب البقاء ويطيل الأمد في حق من شاخ ومرض سوى بقايا من آثار الروح المفعمة بالحياة والمعرفة والقسط ، والاندفاع للعمل المثمر، والمبادرة في إعمار الأرض.ولما كان الأمر كذلك فقد أدرك من أضناهم الانتظار الطويل لهذا السقوط ، سر الصمود في وجه العواصف العاتية وعاديات الزمن،، فابتدؤوا العمل مستهدفين الأسباب المفضية لهذا الثبات ، وعندما نجحوا في مساعيهم بعد جهود حثيثة ، باتت الأمة وقد انسلخت عن روحها التي أمدتها بمقومات الثبات ، وأهلتها للسيادة فإن لم تكن ، كانت بين الناس ندا لند ، فإذا بها غثاء كغثاء السيل رغم الكثرة الكاثرة ، أو كقصعة يتداعى الجياع ، بل والمتخمون لتناوشها من كل ناحية ، وفي هذا الظرف المثالي ، وجد البغاث الفرصة مواتية ليسنتسر ، فساد شذاذ الآفاق وارتفعت عقيرة من جُبل معدنهم بالغدر والخسة بالصراخ جذلا.واندفع أفراد وجماعات من أبناء الأمة المكلومة ، عاقدين العزم لتصويب الخلل وصد الطوفان ، ولكن هيهات لمن انطلق من واقع الفصام أن يحظى بالنجاح ، فكيف له أن يحققه ، والعدو أكثر نفيرا ، ومالا وسلاحا وعلما ، كيف يتأتى له القيام بذلك وقد أصبح خريجا من مدرسة التغريب ، فهل ينتصر التلميذ على معلمه ، وهل يتغلب المقاتل على من برمج له عقله وطرائق تفكيره ، وهل يعلو المصنوع على صانعه ؟ كلا ! فالأمة العاجزة تحتاج إلى أن تتحرر من عجزها الذاتي قبل أن تكون مؤهلة لمواجهة عدوها الخارجي ، وهل يصح أن تبحث عن دواء علتها من عند مستعبدها؟ وهل يشفي الجسد الكسيح بفعل خواء الروح استلهام قانون الفرنسيس ، أو تقليد سلوك الإنجليز ؟ إنه الركض في دائرة ينتهي آخر الخطو فيها بأوله !! ولكن كان من بين اولئك المبادرين رجال عرفوا من أين تؤكل الكتف ، وكيف يكون طريق العمل ، فشمروا عن سواعد الجد وصاحوا في الناس أن هلموا نحو المجد والكرامة ومدارج الفخار، رجال استطاعوا تشخيص الداء ووضع اليد على الدواء ، وكان الإمام أحمد ياسين رحمه الله أحد نجبائهم ، إذ أصر على أن إعاقة الأمة تكمن في روحها ،يوم أن حيل بين هذه الروح وبين غذائها الذي يبني فيها الحياة والتجديد والشباب والقدرة على العطاء والصمود والثبات، إذ غُيبت العقيدة ، والقيت الشريعة خلف الظهور ، وديست الأخلاق ، وتُرك العلم ودرست المعرفة ، وفسد السلوك، فانحدرت الأمة نحو الهاوية (كجلمود صخر حطه السيل من علٍ) ، فكان لا بد لغثائية الملايين هذه من ينتشلها من حال الضياع إلى حال الحضور ، ويضعها أمام سكة المسؤوليات الجسام المنوطة بعنقها ، إنها بحاجة لصاحب همة استثنائية لا تبرر القعود ولا تستسلم لعذر، وصيحة لا تخضع لمقاييس القوة والضعف المادية ، ودعوة لا تقر بقانون االأمر الواقع ، فكان لها الأحمد الياسين.لقد راهن الإمام على صحة تشخيصه للواقع المحزن بجسده المشلول، الذي يضم روحا وثابة، وتقدم في الظلام الذي يلف الأمة ليعطي المثال الصادق والقدوة الحسنة ، وبرغم إعاقة الجسد التي لحقت به ، إلا أنه كان دائم الحركة لتحقيق ما يؤمن به ويصبو اليه ، فطاقة الروح الهائلة ، والهمة العالية ، وشدة اليقين التي تمتع بها ، لم تحدها القيود المضروبة على الجسد النحيل ، وبرغم الضعف الشديد في حاسة الإبصار لديه ، إلا أنه كان صاحب بصيرة قل نظيرها ، تستشرف المستقبل بتفاؤل وأمل ، تخطط بوعي العارف ، وتعمل بتؤدة المتوكل وحزم الواثق ، وأي صبر جميل حازه الإمام المبادر ذو الهمة السامية ، وهو يعمل ليل نهار كي تسلك الطريق بقارب الدعوة الطموحة ، بل أي صبر على الأذى والعذاب والتآمر من القريب قبل البعيد ، لا بل قل أي جلد وأي ثبات أمام الإبتزاز ومحاولات الإخضاع وفرض الشروط ، حتى لو كان هذا الشرط أن يأكل البطيخ لقاء الإفراج عنه من سجون الصهاينة ، فشرطكم مرفوض أيها الظلمة مع حبي الشديد لأكل البطيخ!!يقولون إن (المشايخ) لا يفهمون في السياسة ، وعلى ضوء ذلك أتوجه بالسؤال لأهل السياسة ، طالبا الفتوى في حالتين ، الاولى موقف شيخ قعيد جاوز الستين ، فضلا عن الامراض الكثيرة التي تفتك بما تبقى له من جسد ، وقد انهك في سجون الجبناء ، يرفض العرض عليه من سجانيه بالإفراج مقابل تنفيذ شرط واحد وهو أن يأكل البطيخ ، والثانية في موقف أبو علاء المقريعي (حقوق التسمية محفوظة لصاحب البكائيات) ، الذي اتحفنا بالأمس بضروة أن تقدم أية حكومة توافق مقبلة اعترافا شفافا كالكريستال بإسرائيل ، فأين موقع السياسة في كلا الموقفين ، فإذا كان ما يصرح به قريع يسمى سياسة ، فهمنا على ضوء ذلك سبب رمي حماس بعدم الفهم فيها ، ولكن المشكلة لا تبدو في الاختلاف في مضامين المصطلحات وما يترتب عليها من سلوك ، وإنما يتأسس على الاختلاف في مشارب الأذواق والافكار والقيم.إنهما مدرستان ، مدرسة اقتحمت علينا حمانا وهي تعبر عن قيم من يسومنا سوء العذاب ، ومدرسة القيم الذاتية خاصتنا ، وهذا يسلمنا لواقع يكون فيه منتهى آمال تلاميذ الأولى الراتب وبطاقة التميز والوظيفة ، وما يترتب على ذلك من مكاسب حرام وإثراء غير مشروع ، وعلى ضوء هذه المعطيات نستطيع تفهم أين تكمن مصلحة قريع وفريقه ، والكيفية التي يتم بها تحقيق هذه المصالح ، وعندها فمن الواجب أن تعترف الحكومة المقبلة بإسرائيل ، وهذه هي السياسة وهذا هو فنها، أما تلاميذ الاخرى ، فإن منتهى الآمال لديهم تحقيق الحرية والكرامة ونيل رضا الرحمن ، وأي حرية تلك التي يتوقف على تحققها تنفيذ الطلبات والإملاءات وكسر الإرادة ، وأي كرامة تلك التي يتم التطلع لها بعيدا عن الشعار ، دونك الآلام وفناء الأجسام ايتها الكرامة.نعم فالإمام الياسين وتلامذته من بعده لا يفهمون في السياسة التي تعني ، تمرير المخططات الخيانية باسم السياسة ، أو مقارفة السرقة والنهب تحت لافتتها ، أو المتاجرة بالأرض والقضية من بابها ، لأن دراسات الجدوى الاقتصادية تؤكد على وجود أرباح فلكية ومضمونة فيها، ودون مخاطر تُذكر (اللهم إلا إذا فازت حماس ) بالانتخابات ،إنها حقا سنن الحياة وقوانين التغيير أن يصطدم طلاب المدرستين ، وإنها مرحلة في دورة الزمان ، فهل ينتصر معاقو الروح على تلاميذ معاق الجسد ، في الوقت الذي بدأت فيه الحياة تسري بروح الأمة بفعل النفخ الياسيني المبرور ؟
0 التعليقات:
إرسال تعليق