لكي ينجح الحوار ..



بقلم . الدكتور: عبد العزيز الرنتيسي - رحمه الله -

لم تكن هذه هي المرة الأولى التي تجلس فيها كل من حركة المقاومة الإسلامية حماس والسلطة الفلسطينية على طاولة الحوار، وفي كل مرة كانت تتباين آراء المحللين حول محاور الحوار، وتختلف الآراء فيما يمكن أن ينتج عن هذا الحوار، وتمتد مسافة التوقعات بين التفاؤل المفرط والتشاؤم القاتل، وتغيب عن الأذهان لدى العديد من المراقبين والمحللين بل والمشفقين أن هناك عوامل هامة وأساسية لابد من توافرها كي يثمر الحوار، وحتى لا نخدع أنفسنا أو نمنيها بعيدا عن القراءة الصحيحة، وحتى لا نغرق أنفسنا بعبارات التفاؤل التي قد تفضي إذا لم يحقق الحوار – لا قدر الله - ما ذهبت إليه القلوب من أماني إلى إحباط ويأس شديدين، وشعور بمرارة الفشل.
وحتى لا يصبح الحوار حوارا للحوار، أو يصبح حوار طرشان، لابد من التعرف على عوامل النجاح حتى نعززها، وعلى عوامل الفشل حتى نتفادها، فإذا فعلنا ذلك فلا بأس أن نتفاءل بنجاح الحوار بإذن الله ، وإلا فعلينا أن ننتظر محطة أخرى من محطات الحوار القادمة لا محالة، فمصلحتنا الوطنية العليا تكمن في تعزيز لغة الحوار، فهي اللغة الوحيدة التي يجب أن تعتمد بين أبناء الوطن الواحد، والهم الواحد، والمصير الواحد، مع تجنبنا الاحتكام وإلى الأبد للغة السلاح واستعراض العضلات فيما بيننا.
ولكي ينجح الحوار ينبغي على أقطابه أن يأتوا بقلوب وعقول مفتوحة، ونية خالصة صادقة، وأن يكون كل طرف منهم على استعداد لتقبل الرأي الآخر إن ظهرت فيه المصلحة الوطنية العليا للشعب الفلسطيني، فإذا جاء كل طرف إلى الحوار بنية أن رأيه صواب يحتمل الخطأ، وأن رأي محاوره خطأ يحتمل الصواب عندها يصبح الحوار جادا وهادفا ومبدئيا ومثمرا، ولتحقيق ذلك لابد من التحلل المسبق من كافة القيود التي تحد من المرونة السياسية المطلوبة لدى المتحاورين، فلا يمكن للحوار أن يسمى حوارا إذا حضر أحد الطرفين إلى الحوار مصفدا بأغلال اتفاقات سابقة مع جهات معادية، مع التزامه الحديدي بكل ما جاء في تلك الاتفاقيات من بنود تنسف أي إمكانية للتوصل إلى وفاق وطني، لأنه عندها يكون هذا الطرف قد فقد هامش المرونة السياسية التي تمكنه من الخروج من دائرة التحجر السياسي.
ولكي ينجح الحوار ينبغي على وفدي الحوار ألا يخترقا في طرحهما حدود الثوابت الوطنية، وألا يقتربا من المحظور شرعا، فهناك حدود لما يمكن أن يقبل به الشرع الإسلامي خاصة في قضية حساسة كقضية فلسطين، حيث إن هذه القضية تمس كل مسلم في هذا الجيل وفي الأجيال القادمة إلى قيام الساعة.
ولكي ينجح الحوار لابد ألا يكون حوارا تكتيكيا يهدف إلى تحقيق أهداف محدودة آنية ضيقة لا تمت للمصلحة الوطنية العليا بصلة، بعيدا عن روح الحوار الجاد والهادف والبناء ، فإن فعلنا ذلك فلن يكون الهدف من الحوار عندئذ التوصل إلى قواسم مشتركة بقدر ما يكون الهدف هو حرق مرحلة، أو كسب وقت، أو التغطية على خطوة تنازلية ، أو خلق صورة سرابية وهمية تطغى على صورة الواقع التي تعكس عمق الهوة بين الجد والهزل، والحقيقة والوهم ، والاستراتيجي والتكتيك.
ولكي ينجح الحوار علينا أن نتجنب الإعلان عن محاور غير حيادية والتعامل معها على أنها أهم عناصر الحوار، كالقول بوقف العمليات الاستشهادية، فمثل هذه العناوين لا تعكس نية صادقة لإنجاح الحوار، ولا يهدف طرحها في الإعلام إلا إلى الإعلان المسبق عن فشل الحوار، والتمهيد لتحميل طرف مسئولية هذا الفشل دون الآخر، من هنا ينبغي أن تكون محاور الحوار أشمل من جزئيات غير حيادية، وأن تقوم على أقل تقدير على محورين كبيرين : المحور الأول متعلق بوحدة الصف الفلسطيني، وتقوية الجبهة الداخلية في خندق المواجهة مع عدو تنكر لكافة الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني، والمحور الثاني يهتم بإدارة الصراع مع هذا العدو الذي فاق في عدوانه كل أشكال الإرهاب والإجرام التي عرفتها البشرية وعانت منها على مر العصور، علينا أن نلتفت إلى الوراء لنرى إلى أي هوة سحيقة ألقت بنا الاتفاقيات المجحفة التي خلفتها لقاءات سرية هنا وهناك مع العدو، وعلينا أن ندرس بإخلاص السبل الكفيلة بإنقاذ شعبنا الفلسطيني من براثن تلك الاتفاقيات، علينا أن نبحث عن الأسباب التي أدت إلى تردي أوضاع الجبهة الداخلية وتشرذمها، وعن الأسباب التي خلقت الأجواء الملائمة لانتشار الفساد وترعرعه، ثم نضع الحلول الجذرية القادرة على القضاء المبرم على كل أشكال الفساد، مما سيكون له عظيم الأثر في تعزيز صمود شعبنا وقدرته على المواجهة.
ولكي ينجح الحوار يجب أن تتوقف فورا تلك الحملات التي بدأت تقوم بها السلطة ضد أبناء الحركة الإسلامية، أدناها اختطاف من الشوارع، وأقصاها إطلاق النار الحي على الشباب، مرورا بمداهمة البيوت قبيل الفجر، فأي نجاح هذا الذي ينتظره الحوار وقد تزامن مع هذه الحملات السيئة التي سخنت الأجواء في قطاع غزة إلى درجة الاشتباك المسلح، وأي نجاح يمكن أن يحققه الحوار وأجواء التوتر تخيم على قطاع غزة؟ ولا ندري ما سر هذه الحملة في هذا الوقت بالذات؟ فهل هي لإفشال الحوار؟ وإذا كان الأمر كذلك فهل نفهم من ذلك أن هناك تيارا لدى السلطة لا يرغب بنجاح هذا الحوار؟ أم أن السلطة تريد من هذه الحملة أن تشكل ضغطا على وفد الحركة للحوار؟ أسئلة عديدة تحتاج إلى جواب، ولكن الحقيقة المرة تقول إن هذه الممارسات بقصد أو بغير قصد خلقت أجواء مفعمة بالتشاؤم من نتائج هذا الحوار، ولابد من وقف هذه الاستفزازات اليومية حتى تتهيأ الأجواء الصحية الملائمة لما يجري في القاهرة.
ولكي ينجح الحوار علينا أن ندرك أن هناك نقاط خلاف عميقة بين السلطة وحماس ، قد يتم التغلب على بعضها وفي ذلك إنجاز كبير، وقد تبقى هناك نقاط مختلف عليها، وهنا علينا أن ندرك أن بقاء بعض النقاط العالقة وإن كثرت لا يعني فشلا على الإطلاق ، ولكن وفي نفس الوقت علينا أن نعمل على التغلب على الأعراض الجانبية لهذا الخلاف ، ولا نترك له ذيولا وتداعيات ، فإن فعلنا ذلك نكون قد حققنا نجاحا هاما في هذا الحوار، وفتحنا باباً للأمل بأن المستقبل يحمل في طياته البشريات.
ولكي ينجح الحوار علينا أن ندرك أن حوار القاهرة عبارة عن حلقة في سلسلة كبيرة من الحوار المستمر والذي لم يتوقف بين حركة حماس والسلطة الفلسطينية، وأن هذا الحوار لن يكون الحلقة الأخيرة ، إنما هو حلقة هامة ستتبعها حلقات .
--------------------------

* سبحان الله كتبها الشهيد الدكتور عبد العزيز الرنتيسي في 12/11/2002 وهي حاصلة الآن في 2009 م .

2 التعليقات:

رفيدة الصفتي on الأحد, مارس ١٥, ٢٠٠٩ ٧:٥٨:٠٠ م يقول...

رحم الله المعلم والمربي الفاضل وأسكنه فسيح جناته

كان نعم القائد..نعم البناء

إخوان دار العلوم on الاثنين, مارس ١٦, ٢٠٠٩ ٤:٤٨:٠٠ م يقول...

جزاكم الله خيرا على تواصلكم معنا

 

اخوان دار العلوم Copyright © 2009 WoodMag is Designed by Ipietoon for Free Blogger Template

') }else{document.write('') } }