بقلم : أ. محمد عاكف
الحمد لله رب العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أشرف المرسلين، النَّبيِّ الهادي الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد..
يقول الله تعالى في مُحْكَمِ تنزيله: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِير مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا (70)﴾ (الإسراء).. ولكنَّنا إذ نتدبَّر في حال دنيا القرن الحادي والعشرين، واستجابةً لما أمرنا به اللهُ تعالى؛ من أنْ نمشي في الأرض، وأنْ نرى آياته في الآفاق، آخذين منها العظة والعبرة، استعدادًا ليوم البعث الذي لا ريب فيه؛ فسيجد المُطَّلع منَّا على حال الإنسانيَّة في الوقت الرَّاهن أمامه صورةً بائسةً؛ حيث ظهر الفساد في البرِّ والبحر بما كَسَبَتْ أيدي النَّاس.
وبات إقصاء الآخر بل وقتله؛ هو عنوان الخلاف، والسِّلاح هو لغة الحوار بين البشر، بدلاً من قِيَمِ التَّعارف والتَّعاون والتَّعايُش التي دعا الله تعالى إلى أنْ تكون هي أساس العلاقات بين البشر.. قال تعالى: ﴿يَا أيُّها النَّاس إنَّا خلقناكم من ذكر وأُنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائلَ لتعارفوا إنَّ أَكْرَمَكُم عِنْدَ اَللهِ أَتْقَاكُم إنَّ اللهَ عليمٌ خبيرٌ (13)﴾ (الحجرات).
وبَعُدَتْ الإنسانيَّة عن فطرتها السَّليمة التي فطر الله عزَّ وجل النَّاس عليها، وباتت قِيَمُ الإنسانيَّة وأُخوَّة البشر في الأصل والمنبت الواحد، معانيَ مهجورةً، وقيمًا ضائعةً؛ حيث لا يقيم الإنسان وزنًا لكرامة- أو حتى لحياة- أخيه الإنسان.
والمقصد من "الإنسانيَّة" هنا أنْ تكون قواعد التَّعامُل بين بني آدم هي القواعد التي حدَّدها الله تعالى لإنفاذ رسالته من خلق الإنسان، وهي خلافة الله عزَّ وجلَّ في الأرض، وإقامة شريعته فيها، وإعمارها بالشَّكل الذي يُحقِّق هذه الغايات الإلهيَّة العظيمة.. ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ (البقرة: من الآية 30).
ولذلك فإنَّ "الإنسان" له مكانةٌ ساميةٌ في الدِّين الإسلاميِّ الحنيف؛ حيث جاءت الشَّريعة وأحكامُها لرعايته، وضمان حقوقِه، وتحسين أحواله وتسيير أموره في الحياة الدُّنيا؛ ولذلك فقد سخَّر الله تعالى للإنسان كل شيء.. قال تعالى: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالْنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَات لِّقَوْم يَعْقِلُونَ (12)﴾ (النَّحل)، وقال أيضًا: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاء أَن تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ (65)﴾ (الحج).
كما جعل مقاصد الشَّريعة الخمسة حفظَ الإنسانِ دينَه ونفسَه وعقلَه ونسلَه ومالَه؛ ليحفظ له حياته وكرامته.
ومن مظاهر تكريم الله تعالى للإنسان أنْ خلقه في أحسن تقويم.. ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيم (4)﴾ (التِّين)، كما أنَّ الله عزَّ وجلَّ شرَّف الإنسان بأنْ ربطه بالذَّات العليَّه، عندما سوَّاه بيده، ونفخ فيه من روحه، وجعل الكُفْرَ بالله تعالى صِنوًا لعدم احترام وتبجيل الإنسان.. ﴿إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِين (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (74)﴾ (ص).
ومن أندى ثمرات هذه القِيَم والمبادئ السَّامية مبدأ الإخاء الإنسانيِّ، فالنَّاس سواسيةٌ في شريعة الإسلام، باعتبار واحديَّة الأصل والنَّسب؛ آدم وحواء.. قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْس وَاحِدَة وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)﴾ (النِّساء).
والقرآن الكريم والسُّنَّة النَّبويَّة الشريفة مليئةٌ بالنُّصوص التي تحتوي على خطاب يبدأ بعبارة ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾، والرَّسول الكريم مُحمَّدٌ صلى الله عليه وسلم بُعِثَ للنَّاس كافَّة، ورحمةً للعالمين.. قال صلى الله عليه وسلم: "إنَّما بُعِثْتُ للنَّاس كافَّة".. وقال الله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ (107)﴾ (الأنبياء).
ولم نُؤْمَر في الإسلام بالدَّعوة إلى الله وشريعته بالعُنف والقوَّة والتَّرهيب؛ ليس لأنَّنا أُمرنا بالدَّعوة إلى سبيل ربِّنا بالحكمة والموعظة الحسنة فحسب، وليس لأنَّ الإسلام دينٌ سمحٌ فقط، ولكن أيضًا احترامًا لقَدْرِ الإنسان وعقله، وهذا الاحترام وهذه المساواة بين البشر جميعًا؛ هي التي جعلت من ربِّ العزَّةِ سبحانه يُؤكِّد مُباشرةً العلاقة ما بينه وبين عبده، فلا وساطات ولا حواجزَ بين الله والإنسان.
إلى أيِّ قِيَم يدعون؟!
هذه هي قِيَمُ الإسلام، والتي حكمت العالم لأكثرِ من ألف سنة، كانت فيها دولة الخلافة الإسلاميَّة هي المنارة الوحيدة في العالم، للعلم والأخلاق والتَّشريع وإعمال العقل، في المُقابِل، وعندما كان ابن رشد يناطح الشَّافعي، وابن الهيثم يرسم مخطوطات سدِّ أسوان، وهارون الرَّشيد يتتبَّع السُّحُبَ في السَّماء لكي يأتي بخراجها الذي أمر الله به، كان الغرب يعيش حياة الكهوف والبدائيَّة وشريعة الغاب.
وعندما ظَهَرَ ما يُعْرَفُ بعصر النَّهضة والتَّنوير في العصور الوسطى في أوروبا، وبدأ الغرب في الأخذ من الحضارة الإسلاميَّة، علمًا وفكرًا، وظنَّ النَّاسُ أنَّ العالم في سبيله إلى السَّلام والتَّعاوُن، وأنَّه سوف تسوده قيم العقل والرُّوح معًا، ما كان من "الحضارة" الغربيَّة إلا أن استنَّت العديد من القوانين والسُّنَنِ التي تتنافى مع الفطرة الإنسانيَّة السَّليمة، ومع القيم التي وضعها الله تعالى لتسيير شئون عباده في الأرض.
ومن بين هذه القيم أنْ صارت المنفعة المادِّيَّة هي الأساس، وهي معيار الحكم الوحيد على الأشياء، ومن ثمَّ عمَّت الرَّذيلة والانحلال، وباتَتْ كل الوسائل متاحة أمام البشر ما دام في استخدامها تحقيقٌ لمنفعتهم.
وهو ما كان المنطق الأساسي الذي استند إليه الأوروبيُّون والأمريكيُّون في حملاتهم الاستعماريَّة في القرون السِّتَّة الأخيرة من تاريخ الإنسانيَّة؛ حيث استحلُّوا ثروات "الشُّعوب المُتخلِّفة"، بل إنهم باعوا هذه الشُّعوب نفسها في سوق النِّخاسة.. مئات الملايين من الأنفس التي كرَّمها الله تعالى خدَمَتْ في مزارع ومصانع "الحضارة الغربيَّة"، وماتوا ولم يسمع بهم أحدٌ.
وازدادت الحروب، وازداد تخلُّف العالم غير الغربيِّ بعد قرون من الهيمنة الاستعماريَّة، ونشأت شعوبٌ ودولٌ كاملةٌ لا تعرف للاستقرار معنى، ولا للحضارة وسيلةً، بعد أنْ فُرِضَتْ عليها التَّبعيَّة فرضًا، لكي تكون سوقًا لتصريف مُنتجات مصانع ومزارع الغرب، وحركة أموال مصارفه العملاقة التي أنشأها اليهود في الأساس في القرن السَّابع عشر الميلادي في أمريكا؛ لحفظ أموال قراصنة البحار الأوائل، وضمانة أنْ تستمر هذه الشُّعوب والبلدان في تموين مصانع ومزارع "الحضارة" الغربيَّة بالمواد الخام.
وكان لسَيْطَرة قِيَم الماديَّة والبراجماتيَّة وابتعاد البشر عن دِين الإله الواحد؛ دورٌ كبيرٌ في ترسيخ هذا الوضع الذي أعاد الإنسان إلى عهود شريعة الغاب والاستعباد التي كافح طويلاً لكي يتخلَّص منها، وباتت مُصطلحاتٌ مثل الأُخوَّة الإنسانيَّة والتَّعاون بعيدةً عن قاموس مفردات العلاقات بين المُجتمعات البشريَّة.
وزاد الطِّينُ سوادًا والحرائق اشتعالاً عندما التقت أهداف ومصالح الغرب برأسماليَّته المُتوحِّشة، وعلى رأسه الولايات المتحدة، مع أهداف ومطامع المشروع الصُّهيونيِّ في العالم العربيِّ والإسلاميِّ؛ حيث عمَّت الدِّماء الأرض، وباتت صور اللاجئين والمُشرَّدين هي الغالبة على أخبار أُمَّتنا المغلوبة على أمرها بفعل قوى الاستكبار العالميِّ، وبفعل قوى الاستبداد والفساد الدَّاخليِّ.
حاجة البشريَّة إلى منقذ
والآن، وفي ظلِّ الخراب والدَّمار الذي قاد الغربُ الإنسانيَّةَ إليه، وفي ظلِّ سيل الدِّماء والفقر والمجاعة الذي امتدَّ فيضانه في العالم أجمع بسبب قِيَمِ النَّفعيَّة والاستكبار الغربي، باتت الإنسانيَّة في حاجة إلى تطبيق سياسة للإنقاذ السَّريع، تحفظ للإنسان حياته، وتصون مالَه وعِرْضَه، وتنقذ ما تبقَّى له من كرامته، وتعلي من قِيَمِ التَّعاوُن والإخاء على حساب المنافع الماديَّة والشُّعوبيَّة الضَّيِّقة.
وعبْر تاريخ الإنسانيَّة الطَّويل لم تعرف البشريَّة دعوةً أو دينًا مثل الإسلام، يمكن أنْ ينقذ العالم ممَّا تردَّى فيه، وما قلناه في صدد تكريم الإسلام للإنسان وإعلائه لشأنه؛ ليس عبارةً عن شَعارات أو أمنيات عاطفيَّة، بل هو تجربةٌ تاريخيَّةٌ بكلِّ ما لها من معانٍ وتطبيقات أقامت يومًا دولةً هي الأعظم عبر التَّاريخ.
لقد وضع رسولنا، رسول الإنسانيَّة، مُحمَّدٌ صلى الله عليه وسلم دعائم الإخاء والمساواة والعدالة في عقيدة التَّوحيد التي بلغها عن ربِّ العزَّة سبحانه، فيقول: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَلا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلا لا فَضْلَ لِعَرَبِيّ عَلَى أَعْجَمِيّ وَلا لِعَجَمِيّ عَلَى عَرَبِيّ، وَلا لأحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلاَّ بِالتَّقْوَى" (رواه أحمد).
وفي خطبة حِجَّة الوداع، نجده يرسي أعظم قواعد العلاقات الإنسانيَّة وأسماها، ويعطي الإنسان قدره وكرامته وقُدُسِيَّتَه وقدسيَّةً كل ما يملكه، عندما يقول: "أيُّها النَّاس اسمَعُوا قَوْلي، فإنِّي لا أدري لعلِّي لا ألقاكُم بعد عامِي هذا بهذا الموقف أبدًا، أيُّها النَّاس إنَّ دماءَكُم وأموالَكُم عليكم حرامٌ إلى أنْ تَلْقَوْا ربَّكم كحرمةِ يَوْمِكُم هذا، وكحرمةِ شهرِكُم هذا، وإنَّكم ستَلقَوْن ربَّكُم فيسألُكُم عن أعمالكم وقد بلَّغت، فمنْ كان عِنْدَهُ أمانةٌ فليؤدِّها إلى مَنْ ائْتَمَنَهُ عليها" (رواية ابن إسحاق لخطبة الوداع).
ودينُنَا دين الأخلاق والقيم التي تحفظ للإنسان مكانته، "إنَّما بُعِثْتُ لأتمِّمَ مكارمَ الأخلاقِ".. هذا هو نبيُّنا.. هذا هو دينُنَا.
وهو ليس بسلوكِ مُحمَّد صلى الله عليه وسلَّم فحسب، بل إنَّ الإسلام مدرسةٌ ربانيَّةٌ صبغت بمعالمها حياة المسلمين من بعد، فها هو أمير المؤمنين عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه يضع أوَّل لبنة في أنظمة الرَّعاية الاجتماعيَّة، التي هي أسمى مظهر من مظاهر الحضارة الإنسانيَّة؛ أنْ تعطِف على الطِّفل والشَّيخ وغير القادر، ولا فرق في هذا بين مسلم وغير مسلم في بلاد الإسلام.
فها هو أحد تلاميذ مدرسة النبوَّة، عمر، الذي دانت له الأرض، يرى ذات مرَّة في السُّوق شيخًا كبيرًا يسأل الناس صدقةً، فيقول له من أنت يا شيخ؟، وكان من يهود المدينة، فيقول له: "أنا شيخٌ كبيرٌ، أسأل الجزية والنَّفقة"، فإذا بعمر العظيم يقول: "ما أنصفناك يا شيخ، أخذنا الجزية منك شابًّا ثم ضيَّعناك شيخًا"، وأخذ بيده إلى بيته، ووضع له الطَّعام، ثم بعث إلى خازن بيت مال المسلمين، ويأمره: "افرض لهذا وأمثاله ما يُغنيه ويُغني عياله"!.
ومن عمر أيضًا تعلَّمنا أنَّ الإسلام دينُ الرَّحمة والعدل في الحكم بين الرَّاعي والرَّعيَّة، فها هو يبكي في صلاة الفجر رقةً لبكاء أحد الأطفال الذي أجبرته أمُّه على الفطام المبكِّر؛ للحصول على ما فُرِضَ للأطفال المفطومين من بيت المال، وأمر مناديًا يُنادي في النَّاس ألاَّ يعجلوا بفطام أطفالهم، وفرض فريضةً لكلِّ مولود.
والأمثلة على ذلك كثيرةٌ ولا تُحصى.. هذا هو إسلامُنا الذي فيه الرَّحمة حتى بالحيوان، "لكلِّ ذات كبد رطبة أجرًا"، دين العدالة الذي اقتصَّ لأحد أقباط مصر من ابن عمرو بن العاص حاكم مصر.. هذا الدِّين الذي يسعى أعداؤه الآن لتشويهه وطمسه، ووصمه بالوحشيَّة، بينما جماجم الأطفال والشُّيوخ في غزَّة وباقي فلسطين وفي العراق وفي أفغانستان ولبنان؛ تشهد على "رحمة" النِّظام العالميِّ الجديد!.
أيُّها المسلمون.. أيُّها المؤمنون بهذا الدِّين في كلِّ مكان إنَّ الأمانة التي تحملونها الآن ثقيلةٌ.. فمطلوبٌ من كلّ منَّا في موقعه.. الدَّاعية.. رجل السِّياسة.. العالِم.. الصَّحفي.. الطُّلاب والصُّنَّاع والزُّرَّاع.. أنْ يعيدوا النَّظر في حالهم، وأنْ يعودوا إلى صحيح الدِّين، وأنْ يعيدوا إنتاج الإسلام كما أنزله الله.. نظام حياة كاملاً.. ليس عقائد فقط.. ليس عبادات فقط.. ليس معاملات فقط.. بل هو كلُّ ذلك.. فطبِّقوا الإسلام.
أيُّها النَّاس.. آمنوا بالله ورُسُلِه وكتبه وباليوم الآخر.. أصلحوا بين النَّاس.. أيَّها الأبناء أصلحوا ما بينكم وبين أبويكم، وأصلحوا ما بين أهليكم وعشيرتِكم، فالإصلاح بين النَّاس عبادةٌ ساميةٌ عظيمةٌ.. أدُّوا الأمانات.. احكموا بالعدل.. ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58)﴾ (النِّساء).. اجتهدوا في عَمَلِكُم.. "إنَّ الله يحبُّ إذا عَمِلَ أحدُكُم عملاً أنْ يتقنَه" (حديثٌ صحيحٌ).
وهذا ما ليس فيه صلاح الأُمَّة فحسب، بل صلاحٌ وإنقاذٌ للإنسانيَّة كُلِّها ممَّا ترَّدت فيه من هاويات البؤس والشَّقاء.
عبادَ الله تذكَّروا قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (150)﴾ (ص)... وآخر دعوانا أنْ الحمد لله رب العالمين.
يقول الله تعالى في مُحْكَمِ تنزيله: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِير مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا (70)﴾ (الإسراء).. ولكنَّنا إذ نتدبَّر في حال دنيا القرن الحادي والعشرين، واستجابةً لما أمرنا به اللهُ تعالى؛ من أنْ نمشي في الأرض، وأنْ نرى آياته في الآفاق، آخذين منها العظة والعبرة، استعدادًا ليوم البعث الذي لا ريب فيه؛ فسيجد المُطَّلع منَّا على حال الإنسانيَّة في الوقت الرَّاهن أمامه صورةً بائسةً؛ حيث ظهر الفساد في البرِّ والبحر بما كَسَبَتْ أيدي النَّاس.
وبات إقصاء الآخر بل وقتله؛ هو عنوان الخلاف، والسِّلاح هو لغة الحوار بين البشر، بدلاً من قِيَمِ التَّعارف والتَّعاون والتَّعايُش التي دعا الله تعالى إلى أنْ تكون هي أساس العلاقات بين البشر.. قال تعالى: ﴿يَا أيُّها النَّاس إنَّا خلقناكم من ذكر وأُنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائلَ لتعارفوا إنَّ أَكْرَمَكُم عِنْدَ اَللهِ أَتْقَاكُم إنَّ اللهَ عليمٌ خبيرٌ (13)﴾ (الحجرات).
وبَعُدَتْ الإنسانيَّة عن فطرتها السَّليمة التي فطر الله عزَّ وجل النَّاس عليها، وباتت قِيَمُ الإنسانيَّة وأُخوَّة البشر في الأصل والمنبت الواحد، معانيَ مهجورةً، وقيمًا ضائعةً؛ حيث لا يقيم الإنسان وزنًا لكرامة- أو حتى لحياة- أخيه الإنسان.
والمقصد من "الإنسانيَّة" هنا أنْ تكون قواعد التَّعامُل بين بني آدم هي القواعد التي حدَّدها الله تعالى لإنفاذ رسالته من خلق الإنسان، وهي خلافة الله عزَّ وجلَّ في الأرض، وإقامة شريعته فيها، وإعمارها بالشَّكل الذي يُحقِّق هذه الغايات الإلهيَّة العظيمة.. ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ (البقرة: من الآية 30).
ولذلك فإنَّ "الإنسان" له مكانةٌ ساميةٌ في الدِّين الإسلاميِّ الحنيف؛ حيث جاءت الشَّريعة وأحكامُها لرعايته، وضمان حقوقِه، وتحسين أحواله وتسيير أموره في الحياة الدُّنيا؛ ولذلك فقد سخَّر الله تعالى للإنسان كل شيء.. قال تعالى: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالْنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَات لِّقَوْم يَعْقِلُونَ (12)﴾ (النَّحل)، وقال أيضًا: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاء أَن تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ (65)﴾ (الحج).
كما جعل مقاصد الشَّريعة الخمسة حفظَ الإنسانِ دينَه ونفسَه وعقلَه ونسلَه ومالَه؛ ليحفظ له حياته وكرامته.
ومن مظاهر تكريم الله تعالى للإنسان أنْ خلقه في أحسن تقويم.. ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيم (4)﴾ (التِّين)، كما أنَّ الله عزَّ وجلَّ شرَّف الإنسان بأنْ ربطه بالذَّات العليَّه، عندما سوَّاه بيده، ونفخ فيه من روحه، وجعل الكُفْرَ بالله تعالى صِنوًا لعدم احترام وتبجيل الإنسان.. ﴿إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِين (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (74)﴾ (ص).
ومن أندى ثمرات هذه القِيَم والمبادئ السَّامية مبدأ الإخاء الإنسانيِّ، فالنَّاس سواسيةٌ في شريعة الإسلام، باعتبار واحديَّة الأصل والنَّسب؛ آدم وحواء.. قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْس وَاحِدَة وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)﴾ (النِّساء).
والقرآن الكريم والسُّنَّة النَّبويَّة الشريفة مليئةٌ بالنُّصوص التي تحتوي على خطاب يبدأ بعبارة ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾، والرَّسول الكريم مُحمَّدٌ صلى الله عليه وسلم بُعِثَ للنَّاس كافَّة، ورحمةً للعالمين.. قال صلى الله عليه وسلم: "إنَّما بُعِثْتُ للنَّاس كافَّة".. وقال الله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ (107)﴾ (الأنبياء).
ولم نُؤْمَر في الإسلام بالدَّعوة إلى الله وشريعته بالعُنف والقوَّة والتَّرهيب؛ ليس لأنَّنا أُمرنا بالدَّعوة إلى سبيل ربِّنا بالحكمة والموعظة الحسنة فحسب، وليس لأنَّ الإسلام دينٌ سمحٌ فقط، ولكن أيضًا احترامًا لقَدْرِ الإنسان وعقله، وهذا الاحترام وهذه المساواة بين البشر جميعًا؛ هي التي جعلت من ربِّ العزَّةِ سبحانه يُؤكِّد مُباشرةً العلاقة ما بينه وبين عبده، فلا وساطات ولا حواجزَ بين الله والإنسان.
إلى أيِّ قِيَم يدعون؟!
هذه هي قِيَمُ الإسلام، والتي حكمت العالم لأكثرِ من ألف سنة، كانت فيها دولة الخلافة الإسلاميَّة هي المنارة الوحيدة في العالم، للعلم والأخلاق والتَّشريع وإعمال العقل، في المُقابِل، وعندما كان ابن رشد يناطح الشَّافعي، وابن الهيثم يرسم مخطوطات سدِّ أسوان، وهارون الرَّشيد يتتبَّع السُّحُبَ في السَّماء لكي يأتي بخراجها الذي أمر الله به، كان الغرب يعيش حياة الكهوف والبدائيَّة وشريعة الغاب.
وعندما ظَهَرَ ما يُعْرَفُ بعصر النَّهضة والتَّنوير في العصور الوسطى في أوروبا، وبدأ الغرب في الأخذ من الحضارة الإسلاميَّة، علمًا وفكرًا، وظنَّ النَّاسُ أنَّ العالم في سبيله إلى السَّلام والتَّعاوُن، وأنَّه سوف تسوده قيم العقل والرُّوح معًا، ما كان من "الحضارة" الغربيَّة إلا أن استنَّت العديد من القوانين والسُّنَنِ التي تتنافى مع الفطرة الإنسانيَّة السَّليمة، ومع القيم التي وضعها الله تعالى لتسيير شئون عباده في الأرض.
ومن بين هذه القيم أنْ صارت المنفعة المادِّيَّة هي الأساس، وهي معيار الحكم الوحيد على الأشياء، ومن ثمَّ عمَّت الرَّذيلة والانحلال، وباتَتْ كل الوسائل متاحة أمام البشر ما دام في استخدامها تحقيقٌ لمنفعتهم.
وهو ما كان المنطق الأساسي الذي استند إليه الأوروبيُّون والأمريكيُّون في حملاتهم الاستعماريَّة في القرون السِّتَّة الأخيرة من تاريخ الإنسانيَّة؛ حيث استحلُّوا ثروات "الشُّعوب المُتخلِّفة"، بل إنهم باعوا هذه الشُّعوب نفسها في سوق النِّخاسة.. مئات الملايين من الأنفس التي كرَّمها الله تعالى خدَمَتْ في مزارع ومصانع "الحضارة الغربيَّة"، وماتوا ولم يسمع بهم أحدٌ.
وازدادت الحروب، وازداد تخلُّف العالم غير الغربيِّ بعد قرون من الهيمنة الاستعماريَّة، ونشأت شعوبٌ ودولٌ كاملةٌ لا تعرف للاستقرار معنى، ولا للحضارة وسيلةً، بعد أنْ فُرِضَتْ عليها التَّبعيَّة فرضًا، لكي تكون سوقًا لتصريف مُنتجات مصانع ومزارع الغرب، وحركة أموال مصارفه العملاقة التي أنشأها اليهود في الأساس في القرن السَّابع عشر الميلادي في أمريكا؛ لحفظ أموال قراصنة البحار الأوائل، وضمانة أنْ تستمر هذه الشُّعوب والبلدان في تموين مصانع ومزارع "الحضارة" الغربيَّة بالمواد الخام.
وكان لسَيْطَرة قِيَم الماديَّة والبراجماتيَّة وابتعاد البشر عن دِين الإله الواحد؛ دورٌ كبيرٌ في ترسيخ هذا الوضع الذي أعاد الإنسان إلى عهود شريعة الغاب والاستعباد التي كافح طويلاً لكي يتخلَّص منها، وباتت مُصطلحاتٌ مثل الأُخوَّة الإنسانيَّة والتَّعاون بعيدةً عن قاموس مفردات العلاقات بين المُجتمعات البشريَّة.
وزاد الطِّينُ سوادًا والحرائق اشتعالاً عندما التقت أهداف ومصالح الغرب برأسماليَّته المُتوحِّشة، وعلى رأسه الولايات المتحدة، مع أهداف ومطامع المشروع الصُّهيونيِّ في العالم العربيِّ والإسلاميِّ؛ حيث عمَّت الدِّماء الأرض، وباتت صور اللاجئين والمُشرَّدين هي الغالبة على أخبار أُمَّتنا المغلوبة على أمرها بفعل قوى الاستكبار العالميِّ، وبفعل قوى الاستبداد والفساد الدَّاخليِّ.
حاجة البشريَّة إلى منقذ
والآن، وفي ظلِّ الخراب والدَّمار الذي قاد الغربُ الإنسانيَّةَ إليه، وفي ظلِّ سيل الدِّماء والفقر والمجاعة الذي امتدَّ فيضانه في العالم أجمع بسبب قِيَمِ النَّفعيَّة والاستكبار الغربي، باتت الإنسانيَّة في حاجة إلى تطبيق سياسة للإنقاذ السَّريع، تحفظ للإنسان حياته، وتصون مالَه وعِرْضَه، وتنقذ ما تبقَّى له من كرامته، وتعلي من قِيَمِ التَّعاوُن والإخاء على حساب المنافع الماديَّة والشُّعوبيَّة الضَّيِّقة.
وعبْر تاريخ الإنسانيَّة الطَّويل لم تعرف البشريَّة دعوةً أو دينًا مثل الإسلام، يمكن أنْ ينقذ العالم ممَّا تردَّى فيه، وما قلناه في صدد تكريم الإسلام للإنسان وإعلائه لشأنه؛ ليس عبارةً عن شَعارات أو أمنيات عاطفيَّة، بل هو تجربةٌ تاريخيَّةٌ بكلِّ ما لها من معانٍ وتطبيقات أقامت يومًا دولةً هي الأعظم عبر التَّاريخ.
لقد وضع رسولنا، رسول الإنسانيَّة، مُحمَّدٌ صلى الله عليه وسلم دعائم الإخاء والمساواة والعدالة في عقيدة التَّوحيد التي بلغها عن ربِّ العزَّة سبحانه، فيقول: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَلا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلا لا فَضْلَ لِعَرَبِيّ عَلَى أَعْجَمِيّ وَلا لِعَجَمِيّ عَلَى عَرَبِيّ، وَلا لأحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلاَّ بِالتَّقْوَى" (رواه أحمد).
وفي خطبة حِجَّة الوداع، نجده يرسي أعظم قواعد العلاقات الإنسانيَّة وأسماها، ويعطي الإنسان قدره وكرامته وقُدُسِيَّتَه وقدسيَّةً كل ما يملكه، عندما يقول: "أيُّها النَّاس اسمَعُوا قَوْلي، فإنِّي لا أدري لعلِّي لا ألقاكُم بعد عامِي هذا بهذا الموقف أبدًا، أيُّها النَّاس إنَّ دماءَكُم وأموالَكُم عليكم حرامٌ إلى أنْ تَلْقَوْا ربَّكم كحرمةِ يَوْمِكُم هذا، وكحرمةِ شهرِكُم هذا، وإنَّكم ستَلقَوْن ربَّكُم فيسألُكُم عن أعمالكم وقد بلَّغت، فمنْ كان عِنْدَهُ أمانةٌ فليؤدِّها إلى مَنْ ائْتَمَنَهُ عليها" (رواية ابن إسحاق لخطبة الوداع).
ودينُنَا دين الأخلاق والقيم التي تحفظ للإنسان مكانته، "إنَّما بُعِثْتُ لأتمِّمَ مكارمَ الأخلاقِ".. هذا هو نبيُّنا.. هذا هو دينُنَا.
وهو ليس بسلوكِ مُحمَّد صلى الله عليه وسلَّم فحسب، بل إنَّ الإسلام مدرسةٌ ربانيَّةٌ صبغت بمعالمها حياة المسلمين من بعد، فها هو أمير المؤمنين عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه يضع أوَّل لبنة في أنظمة الرَّعاية الاجتماعيَّة، التي هي أسمى مظهر من مظاهر الحضارة الإنسانيَّة؛ أنْ تعطِف على الطِّفل والشَّيخ وغير القادر، ولا فرق في هذا بين مسلم وغير مسلم في بلاد الإسلام.
فها هو أحد تلاميذ مدرسة النبوَّة، عمر، الذي دانت له الأرض، يرى ذات مرَّة في السُّوق شيخًا كبيرًا يسأل الناس صدقةً، فيقول له من أنت يا شيخ؟، وكان من يهود المدينة، فيقول له: "أنا شيخٌ كبيرٌ، أسأل الجزية والنَّفقة"، فإذا بعمر العظيم يقول: "ما أنصفناك يا شيخ، أخذنا الجزية منك شابًّا ثم ضيَّعناك شيخًا"، وأخذ بيده إلى بيته، ووضع له الطَّعام، ثم بعث إلى خازن بيت مال المسلمين، ويأمره: "افرض لهذا وأمثاله ما يُغنيه ويُغني عياله"!.
ومن عمر أيضًا تعلَّمنا أنَّ الإسلام دينُ الرَّحمة والعدل في الحكم بين الرَّاعي والرَّعيَّة، فها هو يبكي في صلاة الفجر رقةً لبكاء أحد الأطفال الذي أجبرته أمُّه على الفطام المبكِّر؛ للحصول على ما فُرِضَ للأطفال المفطومين من بيت المال، وأمر مناديًا يُنادي في النَّاس ألاَّ يعجلوا بفطام أطفالهم، وفرض فريضةً لكلِّ مولود.
والأمثلة على ذلك كثيرةٌ ولا تُحصى.. هذا هو إسلامُنا الذي فيه الرَّحمة حتى بالحيوان، "لكلِّ ذات كبد رطبة أجرًا"، دين العدالة الذي اقتصَّ لأحد أقباط مصر من ابن عمرو بن العاص حاكم مصر.. هذا الدِّين الذي يسعى أعداؤه الآن لتشويهه وطمسه، ووصمه بالوحشيَّة، بينما جماجم الأطفال والشُّيوخ في غزَّة وباقي فلسطين وفي العراق وفي أفغانستان ولبنان؛ تشهد على "رحمة" النِّظام العالميِّ الجديد!.
أيُّها المسلمون.. أيُّها المؤمنون بهذا الدِّين في كلِّ مكان إنَّ الأمانة التي تحملونها الآن ثقيلةٌ.. فمطلوبٌ من كلّ منَّا في موقعه.. الدَّاعية.. رجل السِّياسة.. العالِم.. الصَّحفي.. الطُّلاب والصُّنَّاع والزُّرَّاع.. أنْ يعيدوا النَّظر في حالهم، وأنْ يعودوا إلى صحيح الدِّين، وأنْ يعيدوا إنتاج الإسلام كما أنزله الله.. نظام حياة كاملاً.. ليس عقائد فقط.. ليس عبادات فقط.. ليس معاملات فقط.. بل هو كلُّ ذلك.. فطبِّقوا الإسلام.
أيُّها النَّاس.. آمنوا بالله ورُسُلِه وكتبه وباليوم الآخر.. أصلحوا بين النَّاس.. أيَّها الأبناء أصلحوا ما بينكم وبين أبويكم، وأصلحوا ما بين أهليكم وعشيرتِكم، فالإصلاح بين النَّاس عبادةٌ ساميةٌ عظيمةٌ.. أدُّوا الأمانات.. احكموا بالعدل.. ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58)﴾ (النِّساء).. اجتهدوا في عَمَلِكُم.. "إنَّ الله يحبُّ إذا عَمِلَ أحدُكُم عملاً أنْ يتقنَه" (حديثٌ صحيحٌ).
وهذا ما ليس فيه صلاح الأُمَّة فحسب، بل صلاحٌ وإنقاذٌ للإنسانيَّة كُلِّها ممَّا ترَّدت فيه من هاويات البؤس والشَّقاء.
عبادَ الله تذكَّروا قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (150)﴾ (ص)... وآخر دعوانا أنْ الحمد لله رب العالمين.
0 التعليقات:
إرسال تعليق