يوم عرفة.. هيا نجدد العهد



عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله أخذ الميثاق من ظهر آدم بنُعْمَانَ- يعني عرفة- وأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها، فنثرهم بين يديه كالذَّر، ثم كلمهم قُبُلاً، قال: ﴿.... أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173)﴾ (الأعراف)". هكذا هو يوم عرفة جعله الله يوم أخذ الميثاق من بني آدم جميعًا؛ وهو اليوم الذي يجب أن نقف فيه مع أنفسنا، كي نجدد العهد مع الله، ونعقد البيعة معه من جديد، نجددها كل عام في خير أيام العمر، فما أعظمه من عهد وميثاق، وما أعظمها من بيعة نعقدها مع الله.

لماذا عرفة؟
لقد اختار الله يوم عرفة دون غيره من الأيام ليأخذ فيه العهد والميثاق من بني آدم، لما في هذا اليوم من فضائل لا تجتمع في غيره؛ فهو اليوم الذي أقسم الله به ﴿وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3)﴾ (الفجر)، قال ابن عباس: الوتر يوم عرفة، وأقسم به ثانية ﴿وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3)﴾ (البروج)، فالمشهود يوم عرفة، كما روى الإمام أحمد.

وهو يوم إكمال الدين وإتمام النعمة، قال تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِينًا﴾ (المائدة: من الآية 3).

وهو يوم التجاوز عن الذنوب والعتق من النار، قال الحبيب صلى الله عليه وسلم: "ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدًا من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة فيقول: ما أراد هؤلاء؟".

وهو يوم مباهاة الله ملائكته بعباده، قال صلى الله عليه وسلم: "إن الله يباهي بأهل عرفات أهل السماء، فيقول لهم: انظروا إلى عبادي هؤلاء جاءوني شُعثًا غُبرًا".

وهو اليوم الذي يتصاغر فيه الشيطان، قال عليه الصلاة والسلام: "ما رُئِي الشيطان يومًا هو فيه أصغر ولا أحقر ولا أدحر ولا أغيظ منه يوم عرفة، مما يرى من نزول الرحمة، وتجاوز الله تعالى عن الأمور العظام".

وهو اليوم الذي يهب الله فيه المسيءَ للمحسن، ويعطي المحسن ما سأل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"إن الله تطاول عليكم في جَمْعِكم هذا، فوَهَبَ مُسيئَكم لمحسِنِكم، وأعطى محسِنَكم ما سأل".

وهو يوم الفضل الأكبر، "عن أنس بن مالك أنه قال: كان يقال: يوم عرفة بعشرة آلاف يوم".

فهو يوم التجلي الأكبر، ويوم الذكر الأكثر، ويوم الدعاء الأكبر، ويوم العتق الأكبر، ويوم المباهاة، ويوم القرب والذكر والمناجاة، فاطلبوا ذلك اليوم الزاهي البهي.

علامَ تعاهد؟
لقد جعل الله يوم عرفة يوم تجديد العهد معه سبحانه وتعالى، وإحياء هذا الميثاق الأبدي معه، وحتى نكون من الذين بايعوا وعاهدوا وجددوا عهدهم مع ربهم؛ فهذه علامات تجديد العهد في ذلك اليوم:
* أول تجديد للعهد أن نشكر الله على نعمة الإسلام والهداية للقرآن، وأن أبقانا هذا العام لنشهد الخير، وأن أحيانا مسلمين، وأن نعقد العزم والنية على أن نكون عبادًا له سبحانه كما يحب ويرضى.

* أن نسارع بالتوبة الصادقة وتكرارها كل لحظة، وأن نكثر من الاستغفار لنا ولأهلنا ولمن معنا، "من استغفر للمؤمنين وللمؤمنات كتب الله له بكل مؤمن ومؤمنة حسنة".

* بأن نصوم ذلك اليوم لما فيه من أجر عظيم، "صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده"، وأن نُفطِّر فيه صائمًا؛ لعل الله أن يرزقنا صيامه مضاعفًا.

* أن نستيقظ الثلث الأخير من ليلة عرفة نقومها لله، ونصلي بجزأي (تبارك وعم)، فنكتب من المُقنطرين الذين صلَّوا بألف آية في ليلة، "من قام بعشر آيات لم يكتب من الغافلين، ومن قام بمائة آية كتب من القانتين، ومن قام بألف آية كتب من المقنطرين"، مستشعرين قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64)﴾ (الفرقان)، وقد قال لنا الحبيب: "أفضل الصلاة بعد المكتوبة الصلاة في جوف الليل".

* أن نجلس قبيل الفجر مستغفرين ربنا ﴿وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ﴾ (آل عمران: من الآية 17)، وأن تفيض أعيننا من خشية الله، وذكره خاليًا حتى نكون ممن ذكرهم الحبيب: "ورجلٌ ذكر الله ففاضتْ عيناه".

* أن ننوي أداء الحج والعمرة، "من صلى الفجر في جماعة ثم قعد يذكر الله حتى تطلع الشمس ثم صلى ركعتين كانت له كأجر حجة وعمرة تامة تامة تامة".

* أن نكثر فيه من الدعاء، "خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قُلت أنا والنبيُّون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير"، وقال: "أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة"؛ فهو أكثر الذكر بركةً، وأعظمه ثوابًا، وأقربه إجابةً.

* أن نملك سمعنا وبصرنا ولساننا عما يغضب ربنا، "يوم عرفة مَنْ مَلَكَ فيه سمعَه وبصرَه ولسانه غفر له"، وأن نسأله سبحانه وتعالى العتق من النيران: "ما من يوم أكثر من أن يعتق فيه عبدًا من النار من يوم عرفة, وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة, فيقول: ما أراد هؤلاء؟"، وأن نقبل على الله في ذل كما كان سلفنا، "قال ابن مبارك: جئت إلى سفيان الثوري عشية عرفة وهو جاثٍ على ركبتيه وعيناه تَهْمِلان".

* أن نكثر من التكبير، ونحيي تلك السنة المهجورة، انطلاقًا من قوله تعالى: ﴿وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ﴾ (البقرة: من الآية 185)، ولما ذكره البخاري رحمه الله تعالى عن ابن عمر وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنهم، أنهم كانوا يقولون: الله أكبر الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله والله أكبر، الله أكبر ولله الحمد". وهذا هو الذكر المطلق، ويكون عقب الصلوات وفي الأسواق والدور والطرق والمساجد.

* أن نجتمع على الخير مع الصالحين في ذلك اليوم، فقد فعل ذلك ابن عباس وأجازه بعض أئمة السلف ومنهم الإمام أحمد فقال: "أرجو أن لا يكون به بأس"، وأن نتعاون على فعل الخير دائمًا.

* أن نحافظ على بيوتنا التي في الجنة من خلال أداء السنن الراتبة، "ما من عبد مسلم توضأ فأسبغ الوضوء، ثم صلى لله في كل يوم ثنتي عشرة ركعة تطوُّعًا غير فريضة؛ إلا بنى الله له بيتًا في الجنة".

* أن نكثر من ذكر الله المطلق، إضافة إلى أذكار الصباح والمساء، وأذكار أحوال اليوم والليلة، "ألا أنبئكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مَلِيككم، وأرفعها في درجاتكم، وخيرٌ لكم من إنفاق الذهب والوَرِق، وخير لكم من أن تلْقَوا عدوَّكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ ذكر الله".

* أن نجتهد في العبادة والإقبال على الله من صلاة وصيام وصدقة وصلة رحم وعيادة مريض وأعمال بر ودعوة إلى الله، وأن ننوي الاعتكاف في ذلك اليوم كلما دخلنا المسجد ولو ساعة أو لحظات، وأن نعيش مع القرآن في الورد اليومي تلاوةً وتدبرًا وحفظًا وفهمًا وعملاً.

* أن ننصر دينه ودعوته، بالعمل لدينه ودعوته صباح مساء، ووقف النفس لهذا الدين كي نحقق الغاية المنشودة بعودة الخلافة الإسلامية وتحقيق أستاذية العالم.

* أن نحمل أهلنا وأولادنا على ذلك كله، وأن نحثهم على الاستزادة من الخير والطاعات، حتى تكون بيوتنا كما أراد الله ﴿وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً﴾ (يونس: من الآية 87).

ختامًا:
هذا هو برنامجنا العملي في يوم عرفة، وهذا هو تجديد عهدنا مع الله؛ كي ننافس على صحبة الحبيب ومرافقته في الجنة، ونتسابق مع الصحب الكرام، وشعارنا ما قاله أبو مسلم الخولاني: "أيظن أصحاب محمد أن يستأثروا به دوننا؟ والله لنزاحمنهم عليه حتى يعلموا أنهم خلَّفوا وراءهم رجالاً"... فهيا إلى التنافس فيها في الخير والعمل الصالح، ولْيَكُن شعارنا في هذا اليوم، (والله لنزاحمنهم) مزاحمة الصحب الكرام على مرافقة الحبيب، ومزاحمة الحجيج على نيل المغفرة في يوم العتق الأكبر؛ كي نجعل من هذا اليوم نقطة انطلاق إلى الجنة، والله أكبر ولله الحمد.

0 التعليقات:

 

اخوان دار العلوم Copyright © 2009 WoodMag is Designed by Ipietoon for Free Blogger Template

') }else{document.write('') } }