بقلم : فهمى هويدى
لولا ما نشرته صحيفة «معاريف» عن العم أمين هويدى، لما خرجت عما ألزمت به نفسى فى الكتابة منذ عقود، ألا أشغل القارئ بما هو شخصى أو عائلى. وهو بالمناسبة ذات الموقف المتجرد الذى ألزم به نفسه بصرامة شديدة، فى كل موقع شغله أو منصب تولاه. لقد سلطت الصحيفة الإسرائيلية الضوء على جوانب فى حياة الرجل وسجله العسكرى لم يتطرق إليها الإعلام المصرى، دلت على أنهم هناك يتابعون أعداءهم بدقة ويعرفون عنهم الكثير، فى حين أننا لا نقدر رجالنا حق قدرهم فحسب، وإنما التبس الأمر على البعض منا، بحيث لم يعودوا يعرفون من هم أعداؤنا بالضبط. قالت «معاريف» فى عددها الصادر يوم الاثنين الماضى 2/11 إنه خلال رئاسته لشعبة العمليات بهيئة الأركان المصرية وضع خطة الدفاع عن ميناء بورسعيد. كما أنه كان مسئولا عن جبهة الدفاع عن القاهرة خلال العدوان الثلاثى عام 1956. وبعد هزيمة 1967 عين رئيسا لجهاز المخابرات العامة، وفى فترة رئاسته للجهاز تم اكتشاف 53 عميلا لإسرائيل فى مصر، قدموا إلى المحاكمة فى 30 قضية تجسس. من هؤلاء 19 أعدموا والباقون حكم عليهم بالسجن.لم تتحدث الصحيفة الإسرائيلية عن دوره فى الإشراف على عملية إغراق الحفار عند ساحل العاج عام 1970 ولا عن قصف ميناء إيلات فى عام 1969. أغلب الظن لأن العمليتين من نماذج النجاحات التى حققتها المخابرات والوحدات الخاصة فى الجيش المصرى، ووجهت ضربتين موجعتين لإسرائيل. مع ذلك فإن ما ذكرته يظل قليلا من كثير يحفل به سجل ذلك الرجل النادر، الذى يعد أحد رموز العسكرية الوطنية التى لم تتخل عن الاقتناع بأن إسرائيل هى عدو مصر الأول، وأن مصيرها إلى زوال، طال الزمن أو قصر.لقد أدهش أمين هويدى كل الذين عرفوه، ووجدوا فيه تجسيدا حيا لمثل العسكرية الوطنية المصرية وأخلاقياتها. ذلك أنه ظل نموذجا للنزاهة والكبرياء والاستقامة. فلم يحسب على أحد، ولا جامل أحدا على حساب حق أو قيمة. ولم يتخل عن جرأته وصراحته فى أدق المواقف وأحلك الظروف. لا يقل عن ذلك أهمية أنه ظل نظيف اليد طول الوقت. فلم ينتفع من أى منصب تولاه، ولم يدخل جيبه أو بيته قرش من خارج مرتبه الرسمى. حتى إنه ربما كان المسئول الوحيد الذى إذا سافر فى مهمة فإنه كان بعد عودته يرد ما تبقى معه من بدل السفر، بعد أن يقدم بيانا بكل قرش أو دولار صرفه. وفى العام الماضى حين فوجئ بتدهور بصره، وتقرر إيفاده على نفقة الحكومة للعلاج فى ألمانيا، فإنه رفض أن يستخدم حقه فى اصطحاب مرافق له من أسرته كان فى أمس الحاجة إليه، حتى لا يحمل ميزانية الدولة أعباء تزيد على متطلبات العلاج الضرورية. وكأى فلاح مصرى فإنه لم يكن يحلم بأكثر من أن يمتلك بيتا يؤويه هو وأسرته، وقطعة أرض تستره. لذلك فإنه بنى بيتا فى مصر الجديدة على أرض تملكها بالتقسيط كغيره من الضباط فى بداية الثورة. واستبدل معاشه ليشترى ستة أفدنة فى «بجيرم» ــ موطن الأسرة ــ بمحافظة المنوفية. وفى حياته اشترى سيارتين، واحدة من طراز مرسيدس اضطر إلى شرائها فى سنة 62 حين كان سفيرا فى العراق. وقد بقيت معه طوال 19 عاما، إلى أن استهلكت فباعها فى سنة 81. ولم يكن بمقدوره أن يشترى أكثر من سيارة «دوجان» ــ إنتاج مصرى ــ فى سنة 86. وهذه بقيت معه حتى وفاته أى طوال 23 سنة.فى أوج مجده الوظيفى فإنه رفض أن يستخدم نفوذه لتعيين ابنه هشام بعد تخرجه فى كلية الهندسة فى أى وظيفة من تلك التى يتطلع إليها أبناء الأكابر، رغم أنه كان يمد يد العون للعديد من أبناء «بجيرم» الذين كانوا يلجأون إليه. كما أنه رفض أن يتدخل لصالح ابنته مها حين جرى التسويف فى تحديد موعد مناقشة رسالتها للدكتوراة، حتى يظل اسمه بعيدا عن أى شبهة أو تقول.فى حياته الخاصة كان فى دقته وانضباطه ونظامه اليومى أقرب إلى تقاليد الثكنة العسكرية. ينام ما بين التاسعة والتاسعة والنصف مساء، ليستيقظ قبل الفجر، حيث يصلى ويقرأ القرآن، ثم يستريح قليلا ليجلس على مكتبه مع طلوع الشمس، وبعدما خرج من سجن الرئيس السادات فى سنة 1971. كان يقضى أغلب ساعات النهار فى حجرة مكتبه، الأمر الذى مكنه من أن يصدر قائمة كتبه التى وصلت إلى 25 كتابا، أغلبها باللغة العربية وأقلها باللغة الإنجليزية. وفى كل ما كتب لم يتخل عن شجاعته وأمانته الشديدة. ومن أبرز كتبه مؤلفه «الفرص الضائعة»، الذى طبع فى بيروت. وسجل فيه شهادة لم يسبقه إليها أحد. إذ كذَّب أسطورة «الضربة الجوية» التى قيل إنها تمت فى حرب 73، وروج لها الخطاب السياسى والإعلامى لاحقا. ومما ذكره فى هذا الصدد أنه كانت هناك «طلعة جوية» فقط قامت بمهمة وحيدة فى بداية الحرب، بعدها نقلت كل الطائرات المصرية إلى أحد مطارات الصعيد لإبعادها عن مسرح العمليات. حيث كان تقدير القيادة العسكرية آنذاك أنه يجب تجنيب الطيران المصرى دخول المعركة، نظرا لتفوق الطيران الإسرائيلى، ومن ثم حرصا على عدم إقحامه فى مواجهة غير متكافئة. وكانت تلك الشهادة الصادمة سببا فى منع دخول الكتاب إلى مصر حتى الآن. رحمه الله.
0 التعليقات:
إرسال تعليق