دروس من ركن الحج


بقلم : د. عصام العريان


الحج ركن الإسلام الخامس، وفريضة العمر العظيمة، ومظهر وحدة أمة الإسلام.

ومع بزوغ هلال ذي القعدة، يلتهب شوق المسلم والمسلمة إلى زيارة بيت الله الحرام والوقوف بعرفات، ويتمنى أن يكتبه الله من حجاج بيته وزوار المشاعر المقدسة في منى وعرفات ومزدلفة، ويحدوه أمل كبير في أن يغفر الله له مع هؤلاء الذين يُشهد الله ملائكته أنه قد غفر لهم، وللذين استغفروا لهم، وعادوا من أداء مناسك الفريضة كيوم ولدتهم أمهاتهم بلا ذنب، "من حج فلم يرفث ولم يفسق؛ عاد من ذنوبه كيوم ولدته أمه".

وفي فريضة الحج دروس وعبر وعظات، لو تأملها المسلم لوجد فيها زادًا لمسيرته في الحياة، ونبراسًا يضيء له طريق العمل للإسلام، ويا ليت إخواننا وأخواتنا الحجاج والعمّار؛ زوار بيت الله وقاصدي مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ يقفوا مع أنفسهم وقفات طوال أيام المناسك وقبلها وبعدها، خاصة في أيام التشريق بمنى لمدارسة تلك الدروس، والتأمل فيها، والاستفادة منها.

- أول هذه الدروس هو "مظهر وحدة أمة الإسلام".
لقد حرص الإسلام على إعلاء قيمة وحدة المسلمين، وارتباطهم ببعضهم البعض في كل الصور؛ لذلك ربط العبادات في معظمها بذلك الرباط الذي يجمع المسلمين معًا، فهم يتجهون إلى قبلة واحدة مهما تعددت أماكن إقامتهم؛ وهي الكعبة المشرفة بمكة المكرمة وهم يعبدون إلهًا واحدًا، وينبذون غيره من الأنداد والشركاء، ويشهدون له بالوحدانية كل يومٍ عدة مرات، وهم يصومون شهرًا واحدًا مهما اختلفت مطالع الشهر في بلدانهم، إلا أنهم يشتركون في صيام غالب أيام الشهر في مظهر بديع؛ ولكنهم في الحج يجتمعون معًا في يوم واحد على صعيد واحد؛ عرفات- يهتفون بهتاف واحد- مهما تعددت اللغات واللهجات- يقصدون ربًّا واحدًا، يطلبون طلبًا مشتركًا للجميع وهو مغفرة الذنوب ورضوانه، قبل أي مطالب أخرى، ويعيشون معًا في صحراء منى، ويرجمون نصب الشيطان معًا لإظهار العداوة له والبراءة منه.

هذا كله عمل مشترك لملايين المسلمين باختلاف ألوانهم وأشكالهم وتعدد لغاتهم ولهجاتهم وتنوع طبقاتهم وثرواتهم وهمومهم، يجسد معنى وحدة أمة الإسلام، وهو أعلى أنواع الدروس أثرًا في النفوس، فهل استفاد المسلمون من فريضة الحج لاستعادة تلك الوحدة على أرض الواقع؟
إن النفس لتحزن وإن العين لتدمع على تفرق المسلمين وتشرذمهم وانقسامهم، رغم تكرار ذلك الدرس عامًا بعد عام، ويزداد التفكك والانقسام حتى يصل إلى البلد الواحد كالعراق والسودان واليمن والصومال، وفي حين نرى العالم كله يحرص على الوحدة والاجتماع، ودول كالصين تسعى بكل قوة لاستعادة أجزاء انفصلت عنها بعوامل الاستعمار والتاريخ مثل "هونج كونج"، و"تايوان"، وترفض بكل حزم دعاوى الانفصال أو التفرق في "التبت" و"تركستان الشرقية" إذا بنا نحن أمة الإسلام- بأهواء الساسة- ودسائس الأعداء، وجهل المسلمين نتفرق ونمزق أرضنا وديارنا إلى "كانتونات" وممالك وإمارات على كل قطعة أمير وملك ورئيس وزعيم لا يملك من أمره شيئًا.

- الدرس الثاني المهم هو "مظهر المساواة بين المسلمين".
في الحج كما في الصلاة نرى حرص الإسلام على إعلاء قيمة المساواة بين البشر وبين المسلمين، فالكل لآدم وآدم من تراب، ولا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى والعمل الصالح.

نجد مظاهر المساواة في الحج عديدة، فالرجال جميعًا يتجردون من ملابسهم العادية، ويلبسون ثوبين إزارًا ورداءً، والأصل في تلك الثياب هو أن تكون بيضاء، والكل عاري الرأس، يلهج بالذكر والدعاء فقيرًا إلى الله، تجرد من جاهه ونسبه وثروته ومكانته، لا حرس ولا حماية ولا منصب ولا استعلاء.

والكل يطوف بالبيت، ويسعى بين الصفا والمروة، ويصعد إلى عرفات، ويرمي الجمار، ويبيت في صحراء منى في مساواة تامة في المناسك.

والحد الأدنى لأداء الفريضة المقدسة هو القدرة والاستطاعة، فلا فضل لغني هنا على فقير.

والكل يشعر بحاجته إلى مغفرة الله ورضوانه، ويتمنى أن يصدق أحد الحجاج في تقواه ودعواته ليشمل الله الجميع بالرحمة والقبول.

مظهر الحجيج والمعتمرين يجسد أيضًا قيمة المساواة بين البشر، حيث يظهرون كالأمواج البشرية التي لا يتمايز فيها أحد من أحد، في صورة رائعة حول البيت الحرام أو عند المشعر الحرام أو بين الصفا والمروة أو على صعيد عرفات، كتلة واحدة تتحرك كالجسد الواحد في انسجام تام.

هل أدركنا قيمة تلك المساواة، وأن التفاضل بين البشر يوم القيامة سيكون كما في الحج بالتقوى والعمل الصالح، وليس بالمال والجاه والنسب؟

إن الله عزَّ وجلَّ رسّخ معنى المساواة بين البشر في أصل الخلق وفي نهاية العمر ويوم البعث، وجعل التنافس بينهم في الدنيا لأجل العودة إلى الآخرة بزاد التقوى.

لذلك فالكل أمام شريعة الله متساوون، والكل أمام الله يوم الحشر متساوون، يظل سبحانه في ظل عرشه من استجاب له بطاعته، ويذل يوم الحشر الذين تكبروا على عباده الضعفاء؛ فيكونون مثل الذر من الصغار.

- ثالث هذه الدروس هو التذكير بالموت والحشر والعرض على الله.
في الحج لو يعلم الناس تذكرة بليغة بالموت والحساب.
فالحاج يتجرد من ثيابه كما يتجرد الميت عند تغسيله، والرداء والإزار اللذان يلبسهما الحاج أشبه ما يكون بأكفان الموتى حتى في اللون، والافتقار إلى رحمة الله ومغفرته ورضوانه وفضله وكرمه الذي يدفع الناس إلى بذل الجهد والتعب، واحتمال المشقة والنصب في أداء المناسك أشبه ما يكون بافتقار العبد الميت المتجرد من الدنيا إلى رحمة الله، وعفوه عند دخول قبره.

والحاج يعود من ذنوبه كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم كيوم ولدته أمه، بصفحة جديدة مثل الميت الذي طويت صحيفته، ويتمنى لو رجع إلى الدنيا ليملأ صحيفة أخرى بعمل صالح ينفعه يوم القيامة، فها هو الحاج فتحت له صحيفة جديدة، فتأمل أيها المسلم قبل أن تتمنى الرجوع فلا يستجاب لك ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99)﴾ (المؤمنون)، صدق الله العظيم.

وأخيرًا: كم في الحج من دروس، وكم في العبادات من تربية وتزكية، ولكنه الاعتياد والتكرار الذي جعل المسلمين أو غالبيتهم لا يستفيدون من تلك الدروس؛ لذلك وجب التذكير بها في الخطب والدروس والمقالات والمحاضرات حتى نبرِّئ ذمتنا أمام الله.

نسأل اللهَ تعالى أن يتقبل من الحجاج والمعتمرين، وأن ييسر لهم أداء المناسك، وأن يحفظهم من كل سوء وضر وفتنة، وأن يغفر لهم أجمعين، وأن يكتب لنا المغفرة والرحمة بدعائهم، ويجعلنا بمشيئة الله وقدرته من حجاج بيته الحرام في قابل الأيام.. آمين.

0 التعليقات:

 

اخوان دار العلوم Copyright © 2009 WoodMag is Designed by Ipietoon for Free Blogger Template

') }else{document.write('') } }